كيف ننظر إلى الخلف ونحن نمشي إلى الأمام محمد ناصر المولهي مفردة “التأصيل” هي الأكثر رواجا بين عناوين الملتقيات الثقافية والندوات وغيرها مما يكتَبُ أو يُقال هنا وهناك. تأصيل قصيدة النثر، تأصيل السرد، تأصيل الفن التكعيبي، “تأصيلات” لا تنتهي. اللافت أن “التأصيل” غالبا ما يتم قرنه بـ”الحداثة”. نجد الكثير من هذه الثنائيات مثل “التأصيل والحداثة في أعمال فلان الأدبية” أو “التأصيل والتحديث” في موسيقى أو مسرح أو لوحات ذاك أو أولائك. ربما من هذه الثنائية التي تباغتنا كل مرة في جعل الأصالة نقيضا للحداثة، شيء مما يمكننا أن نفهم من خلاله المقصود كلما طُرح لفظ “التأصيل” بكل مشتقاته الفعليّة والاسميّة؛ إذ يعني التأصيل بالنسبة إلى الكثيرين محاولة إيجاد مكان لكل ما هو حديث في منطقة من الماضي الخاص، وغالبا ما يكون ماضيا جماعيا لا فرديا. فنجد الكثيرين يبحثون مثلا عن تأصيل قصيدة النثر من خلال الإتيان بنماذج حتى من الشعر الجاهلي مما خلا من وزن واختلّ فيه، فيدلّلون على ذلك بأن قصيدة النثر ليست غريبة عن البيئة الشعرية العربية. كل فن وإبداع حداثيّين قابلان للتأصيل عربيا بهذا المنطق السطحي، منطق لا يخفي تضخّم الأنا، ونظرة التفوّق، والاستعلاء حتى على الزمن من قبل البعض. كما يخفي على النقيض نظرة دونية إلى الذات على أن الحداثة استيراد أو لا تكون. ولكن هذه العملية تشبه تماما محاولة المشي إلى الأمام بجسد مصوّب إلى الخلف، وهذا مما لا يمكن للفيزياء والخيال العلمي أن يتقبّلاه، أو تشبه محاولة جلب دب قطبي ليعيش في الصحراء. الحق لا نجد معنى لمحاولة الربط بين الأصالة والحداثة، بكل هذا التناقض والاشتباك. التيارات الحداثية لم تكن تنظر إلى الخلف وهي تقترح جمالياتها المجددة والمتجاوزة. نعم لم تأت التيارات الحديثة من ذاتها، بل هي من إفرازات ما سبقها. لكنها، وهي لا تنفي السابق، تصعد على ظهره، تخرج منه منطلقة دون التفات إليه. ليس لعلّة فيه، بل لأنه ببساطة ذائب فيها. من جانب آخر هناك من يرى تأصيل الحداثي في إيجاد مكان له في البيئة التي يستقدمه إليها. طبعا على اعتبار أن الحداثة ابنة الغرب دون منازع في ذلك. ويتم توريدها تماما بنفس عقلية توريد البضائع وهنا مكمن الضرر. خلقت “الحداثة” كمفهوم في الغرب، خاصة بعد الثورة الصناعية. وهو ما غيّر من وجه العالم الغربي جذريا، عالم لم يبحث عن وجهه الأصلي عندما اقترح مفكروه ومبدعوه تيارات “الحداثة” الذاهبة إلى الأمام دون التفاتة. لذا انساق إلى الأمام بكل محمولاته من الماضي، دون الحرص على الالتفات. من يصدّق الحروب الدينية الطاحنة التي عاشتها أوروبا بداية من ألمانيا وفرنسا إلى قلب أوروبا ككل، في صراع بدأ دينيا بين الكاثوليك والبروتستانت واستمر ثلاثين عاما أواسط القرن السابع عشر. لكن لا أثر ملموسا لهذه الحروب، فيما عربيا مازالت واقعة الفتنة الكبرى منذ القرن السابع مؤثرة إلى الآن، في الأدب والفكر وحتى الرأي المشترك. لماذا هذه المحاولات العربية لتأصيل الحداثة بدل الانخراط فيها كفاعلين ومنتجين. لا يمكننا اليوم إصلاح الماضي. لكن يمكننا تقديم قراءات شجاعة تثبت ما له من زيف أو مآثر إن أردنا. لكن كل قراءة للماضي لا تسعى إلى خلخلته للإطاحة بسكّانه ودفعهم إلى الأمام، هي محاولات تلفيقية مفرغة، وهذا ما يفعله أغلب مفكرينا للأسف، بل هم آلات تجميل تعمل بالمال. من ناحية أخرى كل نظر إلى الماضي بسخط ودونية هو نظر منقوص. إنه جلد للذات ينتج الصراخ أكثر من الخطوات والوعي. وهذا ما بتنا نراه فعلا. الكثيرون يعيدون تأدية أغان من التراث بطرق حداثية. لكنهم يلغون آلاتها الأصليّة. يذوّبون لحنها في الأنماط الحديثة كالجاز والبلوز وغيرهما. يا له من صراخ. قد يكون بعضه جميلا لكنه صراخ قصير مداه في النهاية. لا “نظرة التفوّق التأصيلية”، ولا “نظرة الانهزام التأصيلية” هما ما نحتاج إليه. كلاهما ليّ عنق فارغ. نحتاج إلى النظر من نافذة الحاضر إلى الأمام. نحتاج أن ننتج إبداعا ناتجا من بيئة الراهن وينظر معنا أو يقفز بنا إلى الأمام. أما الهويات التي يخاف عليها الكثيرون فهي لاحقة وليست سابقة، “إنها ابنة المستقبل”. سراب/12
مشاركة :