لا عيب في البحث عن الاستقرار، لكن من الضرورة بمكان أن ندرك المداخل الحقيقية لتحقيقه، ومنها بالتأكيد تحرير القول في مسألة (التقديس) لكثيرٍ من ملامح واقعنا الاجتماعي والثقافي والسياسي. وربما وجب أن يدفعنا لذلك تكاثرُ أمثلة سقوط المحرمات في واقعنا. والذي يدرك ملامح هذا العصر يعرف أن هذا كله ليس سوى أول الغيث، وأن القادم أعظم. وإذا كان المرء مصراً على تعريف المحرمات بشكله السائد، فلا يمكن إلا تبشيره بأن توالي سقوط المحرمات أصبح قدراً لا فكاك منه. لهذا، يجب أن يبقى هذا الملف مفتوحاً ولو كان في الأمر بعضُ تكرار. كيف نفهم هذه الظاهرة ونفسرها بشكل أوضح؟ كيف نتعامل معها؟ وكيف يكون هذا التعامل طريقاً للاستقرار بدل الفوضى؟ ثمة عاملٌ أساسي ينبغي الحديث فيه بصراحة ووضوح: إعادة تعريف المحرّمات. إعادة تحرير القول فيما هو (مُحرَّم) و(مُقدَّس) في الثقافة العربية الإسلامية. ففي ثقافةٍ تؤثر السلامة وتحتفي بالمنع وسيلةً للحفاظ على القيم. وفي ثقافةٍ اختلطت فيها مقاصد الشرع بأفهام البشر بالعادات والتقاليد. توسّعت دائرة المحرّمات، وتكاثرت أنواع المقدّسات. كان كل شيء مضبوطاً في واقع العرب إلا شيئاً واحداً كان عصياً على الضبط. ذلك هو الإفراط في الضبط. ففي مجال الدين كما في مجال السياسة، وفي مجال الفكر والثقافة كما في مجال الاجتماع البشري، وفي مجال الأدب كما في مجال الفن. كان يوجد باستمرار من يقول بضرورة الحفاظ على القيم، والمحافظة على الأصالة، وتأكيد الاستقرار. لا أحد ضد هذا بتوازناته، لكن المشكلة أن المدخل السهل كان دائماً، والمقبول دائماً، هو مدخل المنع والضبط والتحريم. كانت (الظروف) العربية استثنائيةً على الدوام. وكنا دوماً أمام (منعطف) تاريخي. فأضحت مقتضيات فكرة (الحفاظ) و(المحافظة) قوية، بحيث كان نادراً وجود من يريد أن يُتهم بخرقها. وكانت وسائل وأساليب الخرق ضعيفة، بحيث كان عبثياً التفكيرُ بذلك أصلاً. أصبح الإسهام في التحريم، والإبداع في الضبط، والتفننُ في المنع، وظيفةً وإنجازاً وطريقاً للمناصب المعنوية والمادية. اشتعلت المنافسة، واحتدم السباق. وفي كل مجال، صار هناك ملكيون أكثر من الملك -كما يقول المثل-. لم يعد التحريم في الدين موقوفاً على عالم دين. بل شارك فيه كل من تعلم آيةً وحديثين. لم يعد التنظيم السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي والأدبي والفني محصوراً في دائرة أهل الاختصاص. فتجاوزهم إلى كل من هبّ ودبّ. وكانت أول خطوة، وأسهل خطوة، وأقوى خطوة: توسيع دائرة المحرمات في كل مجال من تلك المجالات. ومع توسيع دائرة المحرمات. تتضخم بشكل سرطاني أنواع المقدسات والممنوعات. ويتضاعف بشكلٍ مضطرد عدد القضايا والأفكار التي لا يمكن مسّها أو النقاش فيها أو مجرد الإشارة إليها. نسي البعض أن كتاب عقيدتهم يُوصف عندما يُذكر بالـ(كريم) وليس بالمقدّس. وأن نبيهم أيضاً يوصف عندما يُذكر بالـ(كريم) وليس بالمقدس. لم ينتبهوا إلى دلالات الفرق المعرفي والفلسفي العميق بين استخدام وصف (المقدس) للإشارة إلى الكتاب والأنبياء في اللغات الأخرى. غفلوا أن ذلك الكتاب لا يدعو الناس إلى (تقديسه). وأنه يدعو بدلاً من ذلك إلى النظر والتفكر والتدبر والسعي والعمل.. تجاوزوا حقيقة أن الكعبة (مُشرّفة) وليست (مقدّسة). قفزوا فوق المعاني الكامنة وراء عدم إمكانية استخدام تصريف (القدُّوس) إلا للإشارة إلى الخالق. لم يدركوا الإشارات الكامنة وراء الحرص الشديد الذي كان مطلوباً على تجنّب التقديس للأشخاص وللأماكن وللمظاهر.. حصل هذا في فهم الدين. وحصل مثله في المجالات الأخرى. عَمَرَ قاموس الأخلاق والعادات الاجتماعية بجميع مصطلحات ومشتقات العيب والحرام. اختفت معاني وقيم الصدق والصراحة والنصيحة والوضوح. وأصبح النفاق الاجتماعي السمة الغالبة على المجتمعات. توقف الإبداع في الفكر والثقافة والأدب والفن. صار سهلاً وصفُ كل إبداع بأنه ابتداع. واتهام كل تجديدٍ بأنه طعنٌ للأصالة. وكل خروجٍ على المألوف بأنه منكرٌ وخطيئة. وكل رأيٍ آخر بأنه مخالفٌ للإجماع. لم ينتبه الناس في زحمة الحياة بأن توسيع دائرة المحرمات بشكل سرطاني هو الوصفة المثالية لقتل عقلية المحرمات عندما تأتي ظروف ملائمة. ولكن النسيان وعدم الانتباه ليست أعذاراً مقبولة على طريق صناعة مستقبل الجماعات البشرية. وسرعان ما جاءت تلك الظروف في العالم العربي في السنوات القليلة الماضية. فبدأ الانتقال تدريجياً من النقيض إلى النقيض. وشيئاً فشيئا أصبح (التغيير) هو كلمة السر. بات الناس يبحثون عن التغيير وينتظرونه ويتوقعونه ويتلهفون إليه في كل مجال. وبعد سنوات من الضبط والمنع والتحريم والنمطية والتقليد. بدا وكأن التغيير في حد ذاته أصبح هدفاً. ولاح وكأن العرب يريدون تجربة هذا الشيء الذي كان محرماً عليهم. بأي طريقة وبأي ثمن. ثم جاءت ثورة الاتصالات والمعلومات. تيسرت طرق خرق الضبط والنظام. أضحت أساليب تحدي المألوف والخروج على السائد في متناول الجميع. وصار ما صار من تساقطٍ للمحرمات. وفي حين تنهار محرماتٌ لم يكن يجب ابتداءً أن تكون محرمات. وبينما تُنتهك (مقدساتٌ) ربما لا تكون حقاً في عداد المقدسات. يظهر وكأننا مقبلون على مرحلة تطال كل محرّم ومقدّس، إذا ما استمرت الفوضى الراهنة. وما من خطوةٍ تبدو معقولة لوقف ذلك الانهيار سوى إعادة تحرير ماهية المحرمات الحقيقية. ومراجعة القول فيما هو مقدس وما هو غير ذلك. في الدين وفي السياسة. في الأخلاق وفي الاجتماع. في الثقافة والفكر والفن والأدب. ومن دون ذلك، ستبقى الأمور مختلطة. وستضيع، في خضم الفوضى التي تصاحب كل تغيير، جميع المقاييس التي يعرف من خلالها الناس ماذا يجب أن يتغير، وماذا يجب أن يبقى على مرور الأيام وتغير الظروف والأحوال. waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :