الكاتب المصري أحمد ناجي، الذي اعتقل على خلفية تهمة “خدش الحياء العام” من قبل السلطات المصريّة. وبالرغم من السخط الهائل المرافق لتفاصيل المحاكمة تمت إدانة ناجي وقضى مدى العقوبة في السجن، إلا أنه لم يتوقف عن الكتابة، إذ أصدر مؤخراً مجموعة قصصية كتبها قبل فترة السجن بعنوان "لغز المهرجان المشطور"، وفيها تتنوع الموضوعات التي يتناولها والتي تتراوح بين الخيال العلمي وعوالم الثقافة الشعبية والحكايات البوليسيّة، والمصادفات الحياتيّة التي تبدو على بساطتها وليدة مجتمع يعاني الفقر والقمع السياسيّ والدينيّ. تحولات غرائبية بعض القصص في المجموعة، الصادرة عن دار الربيع العربي، منفصل وبعضها الآخر على أجزاء تشكل حكاية واحدة، كما أن الرواي يتحرر فيها من الافتراضات المرتبطة باسم المؤلف، فهو يتحول بين ذكر وأنثى، بل نراه تارة نبتة وتارة أخرى فتاة مصابة بالشبق المرضي، أو صحافيًّا يكتشف عوالم الغناء الشعبي في مصر، لكن في جميعها نتلمس السكينة ذاتها والهدوء نفسه الذي يرافق سرد القصة، فهو متأمل لأدق التفاصيل وكأنه غريب بينها، يتخفّى بزي إحدى الشخصيات ويحاول ألا ينفلت من جلده، يطبخ سمومه بحذر متلذذاً بها، وكأنه يجهز جرعة من الـLSD، على أنغام موسيقى سيكون إيقاعها هو الضابط لكل قصة، والتي تختلف باختلاف كل حكاية وطولها وشخوصها. نقرأ في المجموعة عن السنيورة، عن فتاة هُوس بها الراوي وبجسدها وتفاصيله، ليسبح في سوائلها التي تفقده عقله، ليقوم كلاهما بطبخ نوع من الحشيش المسمى بـ”السنيورة” أيضاً والذي يأسر الشارع المصري، لكن هذه “الطبخة” تترك الراوي حزيناً مكتئباً لفقدانه “السنيورة” الخاصة به من لحم ودم التي ما يلبث أن يفتديها بنفسه. أما في “هدية الماما” فنقرأ حكاية من الخيال العلمي، عن تجربة تكنو-جنسيّة، نسرح فيها في فانتازم شبقي هدفه خلق التواصل بين العوالم المادية واللاماديّة، وكأننا في psychedelic trip يتفكك فيها الجسد ومكوناته ليتحول إلى مفهوم، أو كتلة من طاقة تتغير ليعاد تركيبها كل مرة بشكل مختلف، هي ليست هلوسات، بل توصيفات لحالة يتجاوز فيها الفيزيائي ضوابطه التقليدية لينحلّ في هيولى الكون دائمة التحوّل والتغير. يعكس ناجي في المجموعة القصصيّة إداركاً ووعياً بماهية التقنية السرديّة وكيفية توظيفها، إلى جانب المقاربة المفاهيمية لطبيعة التغيرات السياسية والاجتماعية التي تمر بها مصر، كما في قصة “بهلوان الورق المصري ينتصر على الرأسماليّة”، فالقصة أشبه بتعليق ساتيري على الماكينة الرأسمالية وسياسات الـnecro politics، التي توظفها الرأسمالية التي تتحكم بآليات الموت وتسويقه.استخدام تقنيات ما بعد الحداثة في التخييل التاريخي أما المستفيد منها فأشبه بمن يلعب الورق بحنكة، إذ أن اللعب لا يهدف إلى الربح أو الخسارة، الربح قائم لطالما هناك موت وكتل من لحم تولد وتنمو ثم تموت. كما يستخدم ناجي تقنيات ما بعد الحداثة في التخييل التاريخي والبارودي الأدبي، إذ نقرأ في “أضرار التأمل في أعمال كافكا” قصة عن رواية ، أو بصورة أدق، قصة عن تأثيرات كتاب على أحدهم. النهايات المجهولة نقرأ “أشعلتُ سيجارةً وسرحت في الميدان، متذكراً تفاصيل أعمال كافكا كأحلام جميلة وبعيدة، مستعيداً ذلك الشغف وتلك النشوة القديمة التي كانت تصاحب قراءتها. مأساة حقيقية أن تصل إلى مرحلة لا تستمتع فيها بقراءة أعمال كافكا بل فقط تظل مُخلصاً لحنين اللحظات القديمة الجميلة التي صاحبت قراءتها”. أما القصة فتنتهي بكون الراوي “متهماً” بدفع الحساب عن شخص لا يعرفه ولا يمت إليه بصلة. في “لغز المهرجان المشطور” نقرأ حكاية بوليسية عن مغن شعبيّ اسمه “دادي”، يُشطر جسده لقسمين ويسرق كبده، وصحافي يسعى في البداية لاكتشاف القاتل ثم نراه يتحول إلى أداة للسلطة، إلى جانب الحبكة البوليسيّة، يستكشف ناجي ظاهرة جديدة من الغناء الشعبي “المهرجانات”، ليحكي لنا عن مغنّيها وطبيعة علاقاتهم فضلا عن التقنيات المتبعة لإنتاج هذه “المهرجانات”، فالأغاني التي بدأت بوصفها احتجاجاً على ماكينة الإنتاج الموسيقي الرسميّة وغياب حقوق الملكيّة، تم تدجينها شيئاً فشيئاً لصالح الإنتاج المُحتكر، وتحولت إلى صيغة وطنية سياسية وخطاب أيديولوجي بعيد عن جوهرها الأصلي الخارج عن التصنيفات الرسميّة. ما يجمع الحكايات كلها هو خواتيمها، بوصفها ألغازا دون حلول، لا نكتشف القاتل في نهاية لغز المهرجان، ولا مكان وجود الأم في “هدية ماما”، فهي ألعاب سرديّة غير محسومة النتائج، انفلاتات من التقليدي واختبار القدرة على تقبل اليقين بعدم المعرفة واعتناق اللاحسم، حتى الفانتازمات الجنسية التي تحويها المجموعة هي اختبارات للامتوقع، اختبارات لأغلمة اللحم خارج التعريفات التقليديّة المرتبطة بالتكاثر وإشباع الشهوة فقط، هي تسربات خارج الضابط الاجتماعي الذي يهيمن على قنوات اللّذة وأساليب تفريغها.
مشاركة :