من الصعب إحصاء الكتب التي صدرت لمقارعة الفكر الماركسي بكل تلاوينه وأصنافه لا سيما خلال العقود الوسطى من القرن العشرين، ولكن يقيناً أنها تكاد تماثل عدداً تلك الكتب والدراسات الأخرى التي كانت تصدر لتدافع عن ذلك الفكر. كانت المسألة مسألة معركة إيديولوجية وسياسية حامية الوطيس، لم يبق مفكر أو مثقف أو نصف مفكر أو نصف مثقف إلا وشارك فيها. أنفقت عليها جهود جبارة ولكن كذلك أنفقت عليها أموال هائلة وليس دائماً لأسباب فكرية، وفق ما تروي لنا الكاتبة الإنكليزية فرانسيس سامرز في كتابها «من يدفع أجر الزمار»، حيث تروي كم اشتغلت وكالات الاستخبارات الأميركية على محاربة الماركسية ثقافياً ممولة أفكاراً وصحفاً وكتباً وجمعيات تضم أحياناً بعض أبرز كتاب العالم لا سيما من الماركسيين الذين نفروا من ممارسات ستالين وما إلى ذلك. ومن يقرأ كتاب سامرز سيدهشه كمّ ونوعية الأسماء الكبيرة التي غالباً ما مُوّلت لكي تدلي بأفكارها. لكن اللافت أن ليس ثمة سطراً في الكتاب يذكر ذلك المفكر الذي كان الأشد قسوة وصلابة في معركته مع الفكر الماركسي: كارل بوبر. > كارل بوبر لم يكن من الذين يجيّرون أفكارهم. ومن هنا كانت معركته قوية وذات صدقية ضد فكر اعتبره منذ البداية متناقضاً مع القيم الإنسانية التي يحملها. وهو وصل الى ذروة قناعاته وتعبيره في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» الذي على عكس الكتب المماثلة، لم يكن من النوع الذي يمكن استخدامه على سبيل الدعاية بل كان كتاباً متماسكاً واضح الأفكار لا يقف فقط ضد الماركسية - سواء كانت مشوهة ام لم تكن - بل ضد كل الأفكار الشمولية التي تحاول أن تغلق ما يسميه بوبر المجتمع المفتوح. > صدر هذا الكتاب للمرة الأولى في العام 1945 ولم تكن الحرب الباردة، المسؤولة عن معظم الكتب المشابهة الأخرى، قد استشرت بعد. وهو تألف من جزءين سعى بوبر عبرهما الى دحض التطور الذي عرفه الفكر التاريخاني منذ أفلاطون وصولاً الى ماركس مروراً بهيغل، وذلك في سياق دفاع شرس عن «المجتمع المفتوح» والديموقراطية. وهو حدّد بنفسه ان غايته من الكتاب الدفاع عن الحرية والديموقراطية قائلاً إنه يفعل هذا مع عدم «جهلي بالمصاعب المرتبطة بالديموقراطية» مؤكداً أنه يرى فيها «الأمل الوحيد للإنسانية، وثمة أمثلة عديدة تبرهن على أن هذا الأمل ليس واهياً». > يكرس بوبر الجزء الأول من الكتاب لأفلاطون وذريته، محللاً تأثيره على الأجيال المتعاقبة من المفكرين على مرّ العصور، لافتاً الى أن معظم المعلقين عليه انبهروا بعظمة شخصيته... فتبنوا فلسفته مع انها تمثل خطراً حقيقياً، حيث أن المجتمع الذي يدعو اليه وتسيطر عليه النخبة يُمسح فيه الفرد تحت نعال الجماعة. وإذ يقارن بوبر بين أفلاطون وسقراط يهاجم كتاب «الجمهورية» باعتباره يمسخ أفكار الفيلسوف الشهيد. وفي الجزء الثاني من الكتاب، يصل بوبر الى هيغل وماركس معاً باعتبارهما بالنسبة اليه يتكاملان بمعنى من المعاني، متهماً إياهما، كما فعل بالنسبة الى أفلاطون، بأنهما اعتبرا ان التاريخ يسير وفقاً لقواعد ونظم محددة سلفاً (تقوم على أساس تطور الروح لدى هيغل، وعلى أساس الصراع الطبقي لدى ماركس) وهو يعيد هنا أسس هذه النظرة «التاريخانية» المتهافتة الى أرسطو، متهماً إياها بأنها نظرة تشلّ أية قدرة إنسانية على الوصول الى حرية الفكر والحركة باعتبارها تفرض على الإنسان نوعاً من قدرية صارمة تحول هذا الإنسان الى آلة تنفيذية شاء هذا أم أباه. > لقد كان لسان حال بوبر في كتابه الذي، كما نتوقع، قد هوجم كثيراً، يقول أن «نصير نزعة التطور الذي يطلب التحكم «العلمي» في الطبيعة الانسانية لا يدرك ما في هذا الطلب من دعوة الى الانتحار. فالباعث على التطور والتقدم هو تنوع المادة التي يمكن أن تكون موضوعاً للانتخاب الطبيعي». وهذا الباعث في حالة التطور الانساني هو «حرية الشخص في الانفراد بصفة من الصفات، وحريته في الاختلاف عن جاره» - «حريته في عدم موافقة الغالبية والسير في طريقه الخاص». أما التحكم الكلي الذي يؤدي الى المساواة بين العقول بدلاً من أن يؤدي الى المساواة بين الحقوق، فمعناه القضاء على التقدم». هذه الفقرة التي يستعيدها بوبر هنا بعدما كان ختم بها الفصل الأخير من كتاب سابق له: «بؤس الايديولوجيا»، تعتبر على أي حال مفتاحاً لفهم أفكاره، تلك الأفكار التي نالت شعبية كبيرة، منذ عبّر عنها في «المجتمع المفتوح وأعداؤه» الذي اعتبر على الدوام واحداً من أفضل الردود على نظريات التقدم التاريخاني. وجعل لكارل بوبر شهرة كبيرة بوصفه مفكراً ليبرالياً ذا نزعة انسانية. حيث يبرهن كيف أن أفلاطون وهيغل وماركس «لأنهم، اذ اعتقدوا ان التاريخ يخضع لقوانين حديدية أرادوا ان يخضعوا الانسانية، وبالتالي الأفراد لهذه القوانين عينها». ومن هنا وصل بوبر عبر نقده لهذا الثلاثي الى نبذ فكرة الحتمية التاريخية مبرهناً على أن مصير الانسان بين يديه، وانه لا توجد أية قوانين مسبقة تحكم ذلك المصير. > وكارل بوبر، الذي رحل عن عالمنا في العام 1989 عن عمر يناهز السابعة والثمانين، نمسوي الأصل، ولد في فيينا، وبدأ حياته الفكرية مهتماً بأينشتاين وماركس، كما بفرويد وآدلر، ثم بدأ يصيغ أفكاره الرئيسية حول ما كان يعتبره فارقاً جذرياً بين العلم الحقيقي والعلم الكاذب، حيث برهن، كما يقول محبذوه، على أن علم الفلك والسيكولوجيا الفرويدية والماركسية ليست سوى علوم كاذبة، لأنها تختلف عن علوم حقيقية مثل علم الفضاء والسيكولوجيا التجريبية. وإضافة الى هذا برهن بوبر باكراً على الفشل الحتمي لكل المجتمعات المؤطّرة سياسياً في شكل نظري مسبق. وبرأي بوبر فإن ما يميز العلم الحقيقي هو ان بإمكاننا ضمن إطاره أن نقيم التجارب التي تصل الى رفض النظريات غير الصحيحة، طالما أن العلم صحيح وحسابي أما النظريات كافة التي تقف خارج العلم، فإن من غير الممكن البرهنة على صحتها أو على خطئها وذلك لمجرد انها غير دقيقة وغير حسابية. فالعلم يمكنه أن يقول لنا بكل دقة المدى الزمني الذي يحتاجه صاروخ للوصول الى القمر. أما من ناحية الاقتصاد فإن علم الاقتصاد لا يمكنه أن يقول لنا متى يزيد التضخم أو ينقص، بصورة محددة. والماركسية لا يمكنها ان تقول لنا متى يبدأ حكم البروليتاريا حقاً. > بمثل هذا النوع من الأفكار «غزا» كارل بوبر الحلقات الثقافية في لندن، لا سيما حين حيّاه برتراند راسل، معتبراً كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» «دفاعاً عن الديموقراطية، قوياً وعميقاً في الآن عينه». في لندن واعتباراً من 1945 بنى كارل بوبر لنفسه حياة جديدة، هو الذي كان قد قطع مع «حلقة فيينا» منذ أواخر سنوات الثلاثين، ثم اختلف مع زملائه من منظّري الوضعية المنطقية حين وضع كتابه «منطق الاكتشاف العلمي» (1934)، والذي كان بعد مبارحته فيينا قد توجه الى نيوزيلندا حيث عاش حتى 1945 وعلّم في جامعتها. > إذاً في 1945 عُيّن بوبر مدرّساً في جامعة لندن، ثم ترأس «الجمعية البريطانية لفلسفة العلوم» وأصدر العديد من الكتب وألقى محاضرات في الولايات المتحدة حيث استُقبل على الدوام بوصفه أحد ممثلي الليبرالية المحافظة. أما هو فكان يعتبر نفسه فيلسوف انوار حقيقي حسب ما يروي الباحث الفرنسي غي سورمان - من آخر الذين كتبوا عنه -، بعد ان التقاه في لندن قبل فترة يسيرة على رحيله: فـ «من دون تواضع أو خيلاء، أنا الأخير بين فلاسفة الأنوار: لست باني أنظمة، ولا نبياً، لكني رجل ارتبطت طوال حياتي بحل المشكلات. انني أعتبر نفسي منتمياً الى تقاليد كانط وفولتير، اللذين كانا يُخضعان للتفحص العقلي كل ما يتعلق بالفلسفة كما بالرياضات والعلوم الطبيعية». أما ماركس، فظل بوبر يقول عنه، حتى أيامه الأخيرة، إنه «مع هيغل، أسس لعصورنا الحديثة، عبادة الأفكار المجردة: دين الدولة والأمة، والبروليتاريا. ولقد كانت نجاحات أفكاره من المباغتة بحيث حالت دون متبنيها والتفكير فيها. كانت نجاحات جعلت أصحاب العقول الساذجة يعتقدون أن بإمكانهم أن يفهموا العالم إن هم رددوا عبارات طقوسية ذات مظاهر علمية غامضة».
مشاركة :