كثيرة هي الشكاوى التي أسمعها ممن هم حولي من المعارف والأهل والجيران، بل وحتى في المجالس العامة أو الخاصة، لكن أكثر ما يؤرقني ويؤرق الكثيرين وأشعر بمرارة الشكوى وألم الشاكي حينما أسمعها تلك المتعلقة بتراجع العلاقات الاجتماعية وندرة الزيارات العائلية بين الأهل والأرحام.كانت اللقاءات الأسرية في السابق يومية ومستمرة لأن أبناء الأسرة الواحدة يسكنون في بيت الجد الأكبر، ومع الطفرة المادية بُنيت المنازل وتوزع الناس فيها، وبسبب انشغال الناس بأعباء الحياة اليومية والالتزام بالوظائف أصبحت «الزوارة» في العطلة الأسبوعية والأعياد والمناسبات.وفي ظل الطبيعة الاستهلاكية والنهم في شراء ما نحتاج وما لا نحتاج إليه وشيوع ثقافة التباهي، دخلت بيوتنا شركات التجهيزات الغذائية وتحولت «زوارة الأهل» عبئاً جديداً يثقل كاهل رب الأسرة، فلا بد من التعاقد مع شركة VIP مع عاملات خدمة يقدمن ما طاب طعمه وغلا ثمنه، ولسان حال البعض «فلانة مو أحسن مني ويوم زرناهم المرة الماضية كان غداهم من شركة التجهيزات الفلانية ولازم نكون أحسن منهم»، ثم تطور الأمر لتعتذر الزوجات أو البنات عن الحضور بأعذار مصطنعة، ولكن الحقيقة الخجلى تتوارى خلف أنه من العيب «اني أزور بيت خالي أو عمي أو جدي أو بنت حماي بدراعتي أو نفنوفي اللي شافتهم عليَّ من قبل»… وبهذا تسلل الشيطان إلى بيوتنا فلم يعد للزيارات العائلية طعم الاطمئنان وبركة جمعة الأهل والأحباب، وإنما بدأت تتدثر برداء التباهي بماركات الألبسة ونوعيات صحون الأكل ومطّارات الشاي والقهوة وكاساتها وفناجينها…!الذي يزورك لم يأت إلى بيتك احتياجا لطعامك وشرابك أو ملابسك وصحونك، وإنما جاءك تعظيما لأمر الله في إكرام صلة الرحم وبحثاً عن راحة نفسية من أعباء الحياة بتعقيداتها التي نعيشها، ومن يدعوك لزيارته فهو يدعوك لا ليتباهى أمامك بما رزقه الله، وإنما حباً في اجتماع أفراد الأسرة وتلطيفا لقسوة الحياة وتبديداً لمتاعبها.الحياة يا أحباب قصيرة وأعمارنا محدودة فلا تضيعوها بوساوس الشيطان وخداع النفس خشية من أن تعلق الناس على ملابسي أو طعامي أو أثاث بيتي، وإن علّق على ذلك بعض قليلي العقول، فلا يجب أن تشيع بيننا هذه الثقافة المهلكة.الناس اليوم وأنا منهم أستذكر الأيام الجميلة حينما كنا لا نكتفي بالزيارات الأسرية، بل كنا نحرص على السفر في إجازة الصيف مع بعضنا البعض ونسكن جميعاً متقاربين ونأكل من الطعام نفسه، وكانت زوجاتنا وأخواتنا وأمهاتنا كأنهن من رحم واحدة، فلا مجال للتعليقات المسربة شيطانياً لإحراج بعضنا بعضا، ولا تباهي بأسماء الفنادق والمطاعم، وكنا نشعر بلذة الحياة وبركة السعادة على الرغم من محدودية وسائل الترفيه وأماكن الجذب السياحي، لكنها الأرواح النقية والنفوس المتسامحة والقلوب الصافية.كم أحنّ إلى بركة ذاك الزمن الجميل، وكم أتمنى أن يدرك أبناؤنا جمال تلك الأيام وروعتها وأن يتخلصوا من وطأة ثقافة الاستهلاك المرضية والتباهي الزائفة التي غرقوا في تفصيلاتها فأبعدتهم عن لقاء الأرواح المتحابة والأنفس الطيبة الطاهرة.@mh_awadi
مشاركة :