مزج التشكيلية الجزائرية بين هوياتها المتداخلة، العربية والأمازيغية والفرنسية دفع أندريه بريتون إلى أن يراهن على ما يمكن أن تحمله من دم جديد إلى السريالية.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/04/30، العدد: 10618، ص(10)]باية محيي الدين نجمة الجزائر في قلب باريس لندن - النظر إلى صورتها وهي في عمر السادسة عشرة التي نشرتها مجلة فوغ يمكن أن يقنعنا بأهمية تلك الفتاة التي أصرّ بابلو بيكاسو على أن ترافقه شهورا ليعلمها الرسم وحين أقامت معرضا لرسومها كتب أندريه بريتون وهو بابا السريالية مقدمة دليل ذلك المعرض. من خادمة إلى رسامة الفتاة القادمة من مناطق القبائل بالجزائر التي لم تتعلم الرسم، لأنها ببساطة لم تدخل مدرسة في حياتها، أهلتها موهبتها الفذة للانتقال من كونها عاملة صغيرة في مزرعة يملكها أحد المستعمرين كما كانت جدتها أو خادمة منزلية كما بدأت حياتها العملية إلى مكانة، صارت فيها واحدة من أشهر رسامات باريس، يوم كانت مدينة النور عاصمة الرسم في العالم. لقد اعتبرها نقاد الفن في نهاية أربعينات القرن العشرين ظاهرة سريالية فريدة من نوعها في حين أنها لم تفعل شيئا سوى أنها انفتحت بموهبتها على خيال المرئيات في بلادها. توصف بأنها فنانة فطرية وهذا صحيح. ذلك لأنها مثل الفرنسي هنري روسو لم تتلق أصول الفن مدرسيا. وصحيح أيضا أنها مثل روسو الذي عُرف بلقب الجمركي لعمله في الصرافة قد أحدثت برسومها صدمة التفت بسببها الفنانون الكبار إليها. تعلمت باية محيي الدين الكثير من أساليب الفنانين المحدثين وبالأخص بيكاسو وهنري ماتيس. ذلك حقيقي غير أن عودتها التلقائية إلى المنابع الأصلية التي استقى منها فنانو الحداثة مصادر إلهامهم الجمالي هي حقيقية أيضا. باية المقيمة في عينيها النقيتين من أجل اكتشاف العالم، ذلك لأنها لم تتعلم القراءة والكتابة لتتعرف على العالم من خلالهما، كانت تستعيد وهي ترسم ذكرياتها البصرية. لقد رسمت الفتاة ما رأته حيّا في طفولتها. لم تكتشف على سطوح لوحاتها أشياء غريبة عنها. هي ابنة ذلك العالم الذي ألهم بسحره فناني الحداثة الأوائل الذين صاروا معلميها. غير أن باية كانت في الوقت نفسه سعيدة الحظ حين اكتشفها الفرنسيون. أعداؤها، محتلو بلادها هم الذين سلّطوا عليها الأضواء وأضفوا عليها هالة الشهرة.المزيج الحي بين الفطرية والطليعية غير أن تلك الشهرة لم تقف بينها وبين إعلان ولائها لثورة شعبها على المستعمر. وهو ما أربك علاقتها بالرسم الذي تعلمته على أيدي أولئك المستعمرين. كان انقطاعها عن الرسم في سنوات الثورة تضحية كبيرة في سبيل الوطن. كانت مقاطعة الرسم تعبيرا عن مقاطعة الفتاة المتمردة لكل ما له علاقة بفرنسا، الدولة العدوة. مثلما عادت من خلال الرسم إلى جذورها فإنها من خلال مقاطعته عبّرت عن تمسكها بتلك الجذور. باية الرسم الجزائري عشر سنوات توقفت فيها باية عن الرسم لم تمح هالتها رسامة هي المزيج الحي بين الفطرية والطليعية وهي ثنائية حافظت عليها الفنانة حين عادت إلى الرسم بعد انتصار الثورة الجزائرية بثقة أكبر. ولدت باية محيي الدين واسمها الحقيقي فاطمة حداد ببرج الكيفان شرق العاصمة الجزائرية عام 1931. فقدت والديها في سنواتها الأولى فتكفلت جدتها بتربيتها وكانت تصطحبها معها إلى مكان عملها في مزرعة أحد المستعمرين الفرنسيين. مارغريت كامينا هي أخت صاحب المزرعة وهي المرأة التي يعود إليها الفضل في اكتشاف موهبة الطفلة ذات الثانية عشرة. حين رأت مارغريت وهي فنانة الطفلة وهي تصنع من الطين تحفا صغيرة أدهشتها تلك الموهبة اللافتة فقررت أن تهتم بها. بذريعة مساعدتها في أعمال المنزل حملت مارغريت الفتاة الجزائرية الصغيرة إلى العاصمة. هناك عاشت باية في بيت تسوده الأجواء الفنية، فالزوجان فنانان. هناك تعرّفت باية على مواد وتقنيات الرسم وأتيحت لها الفرصة أن تنقل حكايات جدتها بكل ما حملته من كائنات خيالية إلى سطوح اللوحات التي تبهر كل مَن رآها من الزوار الفرنسيين. لشدة إعجاب مارغريت برسوم الفتاة التي صارت ابنتها بالتبني أطلقت عليها اسم باية الذي حل محل اسمها الحقيقي. باية هو مؤنث باي، وهو الوالي باللغة التركية. كانت الفنانة الفرنسية تتوسم في فتاتها أن تكون باية الرسم الجزائري. موعد مع الشهرة في السادسة عشرة من عمرها بدأت باية تتسلق سلّم الشهرة. ففي عام 1947 رأى رسومها وأعمالها تاجر الأعمال الفنية إيمي ماغ فانبهر بها وقرر أن يقيم لها معرضا في مؤسسته بباريس وهو المعرض الذي كتب الشاعر أندريه بريتون مقدمة دليله.ظاهرة سريالية فريدة من نوعها بعد ذلك المعرض بأشهر دعاها بابلو بيكاسو لتقضي وقتا في محترفه، جنوب فرنسا لينجزا أعمالا مشتركة. بعد بيكاسو التقت بجورج براك، زميله في المغامرة التكعيبية. ولأنها كانت يومها حدث الموسم فقد قامت مجلة فوغ النسائية ذائعة الصيت بنشر صورتها وصور عدد من أعمالها. كان المدهش في رسوم باية هو ذلك المزيج بين هويات الفنانة المتداخلة، العربية والأمازيغية والفرنسية. وهو ما دفع أندريه بريتون إلى أن يراهن على ما يمكن أن تحمله باية من دم جديد إلى السريالية. كنز الخيال الموروث قبل عام من انطلاق الثورة الجزائرية عادت باية إلى بلدها وتزوجت من مغني المالوف الجزائري محفوظ محيي الدين (أنجبت منه ستة أطفال). تضامنا مع الثورة قرر الاثنان التوقف عن النشاط الفني وهو ما فعلاه حتى عام 1936. حين توفيت باية عام 1998 في البليدة بالجزائر كانت نبوءة أمها الفرنسية قد تحققت. فقد استطاعت الفتاة اليتيمة أن تكون باية الرسم في الجزائر فعلا. ما كان مبهرا في رسوم محيي الدين أنها استطاعت أن تخترق بعصاميتها عالم الفن الحديث بكل تعقيده من غير أن تتأثر بأحد من رموزه. بالنسبة لمَن تعرف على رسومها من الرسامين الكبار فإن باية كانت تنتمي بتلقائية إلى العالم الذي تعبوا كثيرا في محاولة الوصول إليه من غير أن يكونوا واثقين من أنهم قد وصلوا إلى المكان الصحيح. ما حملته محيي الدين معها عفويا من أدوات ومعدات الخيال استغرق رواد الفن الحديث سنوات طويلة في البحث عن ملامحه السحرية التي تضبط إيقاعه الداخلي. كانت باية ابنة ذلك الإيقاع وهو ما جعلها تستحضره بكل براءة كما لو أنها تؤدي واجبا منزليا روتينيا. لقد بهرت مَن حولها بثقتها بصدق ما تفعل. الأمر الذي دفع الأوساط الفنية الفرنسية إلى التخلي عن غطرستها ورفع القبّعات لتلك الفتاة القادمة من المستعمرة الأعز على قلب فرنسا. فطرية محيي الدين يمكن أن تُنسب إلى مرحلتها الأولى، أما بعد أن تعرفت الفنانة على المدارس والأساليب الفنية الحديثة التي كانت سائدة في فرنسا وصار يُشار إليها بلقب “صديقة بيكاسو” فإن الإشارة إلى فطريتها لم تكن سوى تعبير عن الجهل بما قدمته الفنانة. فلا يمكن اعتبار كل مَن لم يدرس الفن أكاديميا فنانا فطريا. باية التي تعلمت الرسم فطريا صارت ترسم في مراحل متقدمة من حياتها أفضل من جان دو بوفييه الذي اشتهر بمحاولته الاستفادة من رسوم المجانين والأطفال. كانت محيي الدين باعتراف بريتون واحدة من أهم رموز السريالية في عصرها. وهي لذلك لم تكن فنانة ساذجة بما ينطوي عليه مفهوم الفطرة. لقد استحضرت فتاة القبائل أعز ما كان الفن الحديث يتمنى الانفتاح عليه. ذلك هو الكنز الخيالي الذي يختبئ تحت الرموز والإشارات وهو كنز حكائي كانت الفنانة قد ورثته من جدتها. بكل ما حازت عليه من شهرة عالمية كانت باية محيي الدين فنانة جزائرية بعمق.
مشاركة :