حلق الوادي التي تستقبل زائرها برائحة شوائها بقلم: فاروق يوسف

  • 7/16/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

التونسيون يجمعون على أن ميناء حلق الوادي يعد من الأماكن المميزة لتقديم وجبة السمك، أما البعض منهم فيفضل الذهاب إلى المرسى التي لا تبعد كثيرا عنه لتناول السمك. العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/07/16، العدد: 10693، ص(10)]مدينة الأسماك الثلاث لندن - “سيُجن العالم بعد قليل” تلك هي جملتك الأولى لو هبطت إلى حلق الوادي ليلا، كما حدث لي. هذا ما يمكن أن يقع في أيّ لحظة. أقصد أن يقع الجنون بطريقة لا إرادية. غير أن ما لا يتوقعه المرء أن يكون ذلك الجنون رهينا بقدومه إلى مكان بعينه. كائنات سعيدة في الليل “أتراني سأجنّ أنا الآخر وأنا أبحث عمَّن يشبهني في ذلك الليل البهيم؟” في اللحظة التي وطأت قدماي أرض حلق الوادي وهي إحدى ضواحي العاصمة التونسية شعرت أن العالم من حولي قد تغير بعد أن نفخ إسرافيل في بوقه. ما الذي تفعله تلك الحشود ليلا في الشارع الذي خُيّل إليّ أنه الشارع الوحيد في البلدة؟ وهو ما لم يكن في إمكاني التحقق منه. لم يكن هناك من الضوء ما يكفي لكي يرى المرء وجوه تلك الكائنات التي تمشي، كما لو أنها تؤدي طقسا جماعيا يذكّر بالمسيرات الكبرى. ما من شموع وما من لغة مشتركة غير أن الأصوات العالية وهي تتداخل تترك أثرا في الفضاء شبيها بانفجارات الألعاب النارية. يشعر المرء بالخوف بالرغم من أن أحدا لم يكن ينظر إليه أو يلاحظه أو حتى يهتم به. كان البحر قريبا. لم يكن الصخب هناك أقلّ. المدينة كلها هناك أيضا. ترك الأهالي بيوتهم فارغة وصاروا يصطادون طيورا وهمية في عتمة ذلك الليل المثقل بمياهه اللزجة. لم يكن هناك من معنى غير ذلك المعنى الذي يفسّر الحياة من خلال شروطها الواقعية. الحياة هي الحياة. في حلق الوادي يعيش البشر حياتهم باعتبارها مناسبة للحركة ليس إلا. كل تلك الحشود لا تبحث عن مغزى لخروجها الجماعي من البيوت. في لحظة فزع وهمي خُيّل إليّ أن هناك من يراقبني باعتباري غريبا. العاقل الوحيد الذي لا يجد معنى في ما يفعله المجانين من حوله. لم يكن العالم كله قد جُنّ بعد. لذلك يمكنني أن أكون المجنون الوحيد وسط شعب عاقل يمارس عاداته في العيش. في كل ليلة يعيد الناس اكتشاف مدينتهم. الشارع نفسه. البحر نفسه. المقاهي والمطاعم نفسها. البشر وحدهم يتغيرون بين ليلة وأخرى. أنا الكائن الوحيد الذي نزل من كوكب آخر. وهو ما جعلني أشعر بأني أضع على وجهي قناعا يميزني عنهم. لست مثلهم. لم أكن سعيدا مثلهم. كانت سعادتهم تغيضني. هل التونسيون سعداء حقا؟ أعصابهم المشدودة مثل إيقاع لغتهم لا توحي بذلك. فريد الأطرش على الخط "صقلية الصغيرة" هي حلق الوادي التي تقع شمال العاصمة التونسية. لا تزال هناك جالية إيطالية كبيرة تعيش في المدينة التي استقبلت أجدادهم ومعهم أعيان قادمون من جزيرة صقلية والأندلس في القرن السادس عشر.حلق الواديتمتاز بشريطها الساحلي الذي يمتد على طول 2.5 كيلومتر وبه نزهة شاطئية يقصدها الزوار للتمتع بجمال البحر منذ أن شيد كارلوس الخامس ملك إسبانيا عام 1535 حصن القصبة نشأت قريبا منه بلدة تميزت عبر مراحل نموها بتسامحها الديني. المدينة الصغيرة تحتضن الكنيس اليهودي والكنيسة المسيحية والمسجد الإسلامي. حين أقمت ليلا في فندق “ليدو” على بعد أمتار من البحر لم يكن صعبا عليّ العثور على مطعم للأسماك. “الحوت” كما يسمّي التونسيون السمك هو الوجبة الغذائية التي أكسبت حلق الوادي جزءا من شهرتها على النطاق المحلي على الأقل. وهو أمر يختلف عليه التونسيون كعادتهم. فبالرغم من أنهم يجمعون على أن ميناء حلق الوادي يعدّ من الأماكن المميزة لتقديم وجبة السمك فإن البعض منهم يفضل الذهاب إلى المرسى التي لا تبعد كثيرا عنه لتناول السمك. وكما يبدو فإن تلك المفاضلة لا تصدر إلا عن انحيازات جهوية. وهي الأخرى عادة تونسية متأصلة. التونسي يحب البلدة التي ولد وعاش فيها بطريقة تجعله لا يرى سواها. يقول فريد الأطرش في أغنيته بساط الريح “تونس أيا خضرا/ يا حارقة الأكباد/غزلانك البيضا/ تصعب على الصياد/ غزلان في المرسى/ وإلا في حلق الواد/ على الشطوط تعوم/ ما تخاف صيد المي”. وكما يبدو فإن المطرب الذي أحبه التونسيون دخل هو الآخر في حمّى التنافس بين البلدتين الساحليتين بالرغم من أنه لم يذكر الحوت في أغنيته. في تلك الليلة طلبت حوتا في أحد المطاعم التي تقع على الشارع الرئيس فأحضر لي عامل المطعم سمكة صغيرة في صحن كبير مكتظ بالسلطة التونسية التي تتميز بطعمها الحارق. حين عدت إلى الفندق وأنا أشعر بالجوع ذهبت إلى مطعمه مباشرة وسألت العامل هناك عما لديهم فقال “هل أجلب لك حوتا؟” ضحكت وقلت له “اجلب لي حوتين لو سمحت”. أجمل ساحرات إيطاليا سحرها في تواضعها بالرغم من أن قلعتها التي كانت يوما ما سجنا هي أول مبنى يراه المرء حين يدخل إليها. وكما يبدو فإن المرء يتأخر في اكتشاف أيّ نوع من المدن هي حلق الوادي حين يقدم إليها ليلا. كانت غرفتي تطل على البحر ففضلت أن أبقي شباكها الكبير مفتوحا من أجل الإنصات إلى هدير الأمواج. وهي عادة تمكّنت مني كلّما أقمت في مدينة بحرية.كلوديا كاردينالي تأخذ زائر حلق الوادي في نزهة ليلية في المدينة التي ولدت فيها عام 1938 غير أن ما فاجأني في المدينة التونسية أن ضجيج المارة والسابحين قد غطّى على صوت البحر. أما حين عرفت بأن المدينة لا تنام في ليالي الصيف بعد أن سألت استعلامات الفندق فقد صدمني ذلك الاكتشاف لأنني لم أكن مهيئا لقضاء ليلة من غير نوم. حينها قررت الهبوط من الغرفة والذهاب إلى الساحل متبعا آثار قدمي فاتنة لم تغادر صورتها وهي تجلس في الماء ببنطالها الجينز من أجل أن يأخذ شكل ساقيها. أخذتني كلوديا كاردينالي في نزهة ليلية في المدينة التي ولدت فيها عام 1938. أجمل فتيات إيطاليا التونسيات كانت صورة من تلك الفتاة التي رأيتها في فيلم فليني “ثمانية ونصف”. كنت أتبع خيالها وأنا أكلم نفسي ولا أحد ينصت أو يلتفت إليّ. أليست واحدة من علامات الجنون أن يكلم المرء نفسه؟ كانت كاردينالي رفيقتي. لقد قيل لي صباحا إن شارع روزفلت (الرئيس الأميركي) وهو شارع المدينة الرئيسي يضم أربعين مطعما للسمك. وهو ما يعني أن ليس هناك شارع ينافسه في شمال أفريقيا في هذا المجال. ثلاثة كيلومترات يخترقها المرء محمولا بروائح السمك المشويّ والمقلي. وكان هناك مَن حدثني عن مهرجان السمك الذي تشهده المدينة كل سنة حين سألته عن علاقة المدينة بالسمك. ما لم أنتبه إليه وقد دخلت المدينة ليلا أن هناك جدارية بثلاث سمكات تستقبل الزائر هي بمثابة شعار للمدينة. هناك مَن يقول لك “أهلا بك في مدينة السمك” ما من مدينة في العالم سوى حلق الوادي تفخر بعلاقتها بتلك الكائنات البحرية بهذه الطريقة. لم أسأل كلوديا ليلة أمس عن سرّ تلك العلاقة. مَن صنع الوهم أولا. الإيطاليون أم التونسيون؟ بالنسبة إلى الإيطاليين كانت حلق الوادي بمثابة لقية استشراقية غير أنها كانت بالقوة نفسها بالنسبة إلى التونسيين لمسة إيطالية كشفت عن واحد من أعظم أسباب وجودهم. من ساحل حلق الوادي يمكن للمرء أن يرى إيطاليا على الخرائط. نعم إيطاليا هناك. وكانت هنا دائما بناسها. عبر قرون لم يكن المتوسط بحرا يفصل بين قارتين. كانت الإيطالية يوما ما هي لغة أهل حلق الوادي. بعدها تعلّم الإيطاليون العربية ليكونوا أبناء بلد وباعة سمك.

مشاركة :