الثّاءُ.. الغيثُ والثَّمَر (3) - محمد جبر الحربي

  • 5/6/2017
  • 00:00
  • 24
  • 0
  • 0
news-picture

الثاءُ في الثَّوْر والثَّوْرة، أما الثوْر فقد احتلَّ مكانةً مهمةً لدى فلاحي الأرض عبر التاريخ، فنراه كمصدر قوة خارقة، وحكمة، وسمو، لدى حضارات العراق القديمة في الثيرانِ الآشورية المجنَّحة من جهة، وهو محرك الحراثةِ الأول قبل الآلة، ومصدر اعتزاز الفلاح من جهة أخرى أينما وجدت الفلاحة في الأرض عبر العالم، كما في الهند وغرب آسيا، والأمريكتين، يقول الحكيمُ اليمني «علي ولد زايد»: «يا ثوْرنَا طالْ عمْرَكْ طولَ الهلال اليمَانِي في آخِرِ الشَّهْر شَيْبةْ وغدوةْ ولدْ يومِ ثانِي» وقد كان إطلاقُ اسمِ ثورٍ على الإنسانِ قيمةً لدى شجعان العرب القدامى، حتى أصبحَ مع التاريخ اليوم مذمَّةً وشتيمة..! ونرى الثورَ متسيداً، بل يكادُ، من البراعةِ، ورأسه يظهرُ من الجزء الأيسر من جدارية «جرنيكا، غرنيكا»، Guernica بالإسبانية، وهي اللوحة العالمية للفنان الإسباني بابلو بيكاسو، وهي لوحة تعبر عن السلام في وجه الحرب، والغارة الألمانية على القرية التي تحمل اسم اللوحة، تأييداً لنظام فرانكو الفاشي على وجه التحديد، ودعماً وتثبيتاً له ضدَّ الثوار الوطنيين. وفي الثَّوْرةِ، وهي من الفعلِ ثارَ: ثَارَ الشَّعْبُ بِالْحَاكِمِ الْمُسْتَبِدِّ: اِنْتَفَضَ وَوَثَبَ عَلَيْهِ لِيُحْدِثَ ثَوْرَةً، وثارَ على، يثورُ ثوْرةً وثوَرَاناً، فهو ثائر، والثورةُ تعني في مفهومها الأول التغيير، وهو التغيير الموجب الهادف، عبرَ إحلالِ نظام عادل محلَّ نظام متهالك ظالم، وبذلك يسبق الأنبياءُ والرسلُ كلَّ الثوار، لأنهم ثاروا على واقعهم استجابةً لأمر ووحي إلهي، حين أرادوا الخروج بمجتمعاتهم من الخرافةِ والجهل والشرك والضلالة، وازدراء الفقراء والمستضعفين، إلى النُّورِ والحق والخير والعدالة، عبر التَّبصُّرِ، وطرح الأسئلةِ، وتحكيم العقل، كما تجلى ذلك في نوحٍ عليه السلام، وإبراهيم الذي قاده شكه إلى اليقين، وبقية الأنبياء والصالحين، وصولاً إلى خاتم النبيين محمد العربيِّ الأمين، صلوات الله عليه وعلى صحبه أجمعين، الذي ثبّتَ هدياً ورسالةً أزليَّةً غيرَ آنيَّة، ما زالت تؤثر في العالمِ إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، وهي رسالةُ محبَّة ورحمة، لا رسالةَ كره وإرهاب..! وتاريخياً، ضمن المفاهيم السياسية والاجتماعية، تعتبر الثورة الفرنسية، أول ثورة شاملة لمجتمع ضد نظام حكم قائم ومهيمن، تتالت بعدها الثورات ضد الإقطاع، والملكيات الأوروبية، وفساد الكنيسة، التي كان يعوّل عليها في تمرير القوانين الظالمة، والضرائب، واغتصاب حقوق وأراضي الفلاحين، والطبقات الدنيا، وكذلك في تبرير الحروب، وشغل الناس بها عبر خلق أعداء دائمين يكونون مصدر الخطر، وسبب سوء الأحوال المعيشية، في عقول البسطاء. وقد أثمرت الحروب والاستعمار والاستبداد والطغيان من جهة، ووعي الشعوب ومقاومتها من جهة أخرى، ثورات لا حصر لها عبر العالم، في القرون الثلاثة الأخيرة، تغيرت فيها خارطة العالم، ونشأت دولٌ، واختفت أخرى، ومزقت الحروب الكوكب الأزرق، وكان للعرب نصيبهم منها، فثاروا على الأتراك، في الحقبة العثمانية، التي كانت تحتقرهم، وأسهمت في تخلفهم، ومن ثم تسليم أرضهم للاستعمار الإنجليزي والفرنسي كما حدث في فلسطين على سبيل المثال، وهي الفترة التي عانى فيها العرب من التخلف والجهل، والتي كان يُسمى فيها الحكم العثماني بالرجل المريض، أو رجل أوروبا المريض. ثم ثار العرب على الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي، وكانت الثورة الجزائرية مثالاً رائعاً لبطولة المقاومة والثوار، ومثالاً مزرياً للمستعمر متمثلاً في الفرنسيين، وعاراً على الإنسانية والديمقراطية والمثل التي يدّعونها..! كما يصفها الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد: هذي التي المُثُلُ العُليَا على فمِها وعندَ كلِّ امتحانٍ تُبْصَقُ المُثُلُ..! وما أنْ طرَد العربُ المستعمرين من أبوابهم، حتى عادوا ثانيةً من النوافذ عبر حروبهم الاقتصادية والإعلامية، وعبر بثِّ الفتن، وإثارة النعرات الطائفية والإثْنيةِ، وكانت ثالثةُ الأثافيَّ ثوراتِ الربيع العربي، التي أريد لها تقسيم وتجزئة المجزأ من الأراضي العربية، وصرف النظر عن القضية الأم فلسطين. فامتداداً لمشروع «سايس بيكو»، كان مشروع اليهودي «برنارد لويس» لتقسيم كافة الدول العربية إلى دويلات، وهو ما نرى ثمرته في الخريطة العربية بعد ثورات الخريفِ والوهم، مع بقاء إسرائيل دولة قوية مهيمنة، لا يطالها حتى الثُّغاء..! والثاءُ في الثروةِ، والثروةُ لا تتحقق للأوطان في ظل الظروف التي أتينا على ذكرها، من فوضى واقتتال وصراعات وحروب، بل هي تنفد سريعاً، ويذهب معظمها في غايات غير حاجة الوطن من بنىً تحتية وتطوير وتنمية، وغير حاجة المواطنين مِن غذاء ودواء وأمْن وتعليم وتنمية، وتصبح المعارضات الوهمية الثائرة مِن معارضي الفنادقِ إلى إرهابيي الأنفاق والخنادق، مجردَ عصابات مسلحة تنهب الوطن والمواطن، ابتداءً من جيبه، وليتها تقف عند حدود منزله وأثاثه، بل هي تحتل أحياءً وقرىً ومدناً بأكملها، وتسعى سعياً حثيثاً لحرق الأخضر واليابس، وتتفنن في تدمير كلِّ بناء أو أثر قائم، وكل أثر معرفيٍّ أو حضاريٍّ، كأنَّ الوطنَ هذا أو ذاك ليس بوطنهم، وهو فعلاً ليس بوطنهم، لأنه فعلاً وطن الشرفاء من أبنائه، لا وطن الخونة والعملاء والإرهابيين على مختلف تصنيفاتهم، وانتماءاتهم، وزورهم، ووزرهم، واعتداءاتهم الأثيمة على الآمنين من قتل وخطف وسلب وتعذيب وتهجير.

مشاركة :