« لا نصْرٌ تيَامَنَ، لا ثِقاتٌ خُلَّصٌ يُهدونَ للتَّاريِخِ بِيضَ رِقَاعِهِمْ. ما اخْضَرَّتِ الدُّنيا على إيقاعِهِمْ هذا مُثَارُ النَّقْعِ: تلكَ على اليَمينِ مَقابرُ الزَّمنِ الجَميلِ، وتلكَ شُهْبُ قلاعِهِمْ»* والثَّاءُ في الثقافة، وقد أثَّر المفهومُ الخاطئُ لها لدى السلطات العربية منذ قرون، إلى تشويهها، وقتل روح الإبداع في شتى فروعها، حتى أصبح نتاجها رتيباً مكروراً، غير قادر على التماهي مع ثقافات العالم، حاله حال السياسة العربية المتخبطة، بل هي انزلقت في منزلقاتها. وبدل أن يكونَ دورها تثبيت الهوية، وتجذير التراث الحضاري، والحفاظ على الآثار، ومشاركة هذه الكنوز مع العالم، وتنمية الحقول الفكرية والمعرفية، وتنشيط حركة الكتاب والترجمة، ومراكز الدراسات والبحوث، ودعم الإبداع والمبدعين، وتبني الموهوبين في شتى مجالات الثقافة، وفتح نوافذ الحوار الحُرِّ الهادف مع الذات والآخَر، وبث روح التسامح والتراحم والمحبة والسلام، وتثبيت قيم الحق والخير والعدالة والمساواة، كانت الأولوية للحذف والمحو والنفي، وتكريس الصوت الواحد، وتسفيه المقابل، وتهميش الرأي الآخَر، إضافةً إلى الحجْر والمنْع والحجْب، وخلق مناخٍ للصراعات العقيمة، والاستقواء بالسلطة أيا كانت، لدعم هذا الطرف أو ذاك، دون التفكير في النتائج والآثار المترتبة على ذلك، والأمَرُّ، دون التفاتٍ إلى الخطرِ الحقيقي، العدوِّ الحقيقي المتربص بالهوية والكيان. بل أدهى من ذلك، فقد حدث، وما زال يحدثُ، أن اعتُبر المثقف، لا العدو، عدوَّاً للأوطان، وأنه يمثل خطراً أكبر من الصهيونية ذاتها، فسعت دول وجماعات إلى اجتثاث المثقفين، وعزلهم، وإقصائهم، وتشويه سمعتهم، والانتقاص من إنجازاتهم. وقد عاش كثيرٌ من العلماء والأطباء والمحامين والمفكرين والأدباء والشعراء العرب كالغرباء في أوطانهم، أو غرباء عن أوطانهم، بحثاً عن التقدير، أو الأمن، أو لقمة العيشِ، أو كل ذلك. وظل ما يطفو على السطح من ثقافات، هو في الغالب ثقافة سُلُطات، تجترُّ ولا تبتكر، وتحذفُ ولا تضيف. تكرِّسُ المكرَّس، وتعيد تأسيس المؤسَّس أصلاً، وظلَّ السجال الدائر العقيم ثابتاً في تجزئةِ المجزَّأ، وتصنيف المصنَّف. وبدل أن تكون الثورات في عالمنا العربي ثوراتٍ في العلوم والتقنية، والاستثمار في خيرات الأرض كالزراعة في السودان ومصر واليمن والشام، والتعدين والصناعة، والسياحة، وقطف ثمار المواقع الجغرافية الفريدة، وغير ذلك كثير. كانت الثوراتُ ثوراتِ جماعاتٍ وعصاباتٍ إرهابية لها أجنداتٌ خاصة، ومعارضات فنادق طارئة، تدعي كلها العلم والمعرفة بمصلحة الأمة والناس، ولمَّا أماطتْ لثامها، أو هي لم تمطه، ظهر على أرض الواقع أنها تنفي العقل، وتنفي الدولة، وتنفي مفهوم الوطن والوطنية، بل هي تنفي الحياة بكل تفاصيلها، حين تحمل في ثناياها الموت والدمار والتخريب والتهجير، ونسف كل ما تحقق، وتثبيط روح الوطنية والهوية والانتماء، وهكذا، حتى أصبحت الثكنات ومعها المساجد والجامعات والمدارس والمصانع والمطارات، أهدافا للتفجير والتدمير، أو ساحاتٍ لسجن الأهل واختطافهم، وإعدامهم، فقط لأنهم مواطنون عزَّل يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويحبون أوطانهم بفطرتهم، وطريقتهم الجميلة، قبل ظهور هذه الجماعات المتنافرة المتناحرة المتناثرة، متغيرة الولاءات. «يا ثَوْراتِ الهَدْمِ، ويا ثَوْراتِ المَاءِ يُفَسَّرُ، بعدَ الخَيْبَةِ، بالمَاءْ. إنَّ التَّغييرَ.. وَهَمَّ التَّغييرِ بِنَاءْ..!»* وكان ما كان، وما نشاهد من سقوطٍ لمنظومة الدول العربية في معظمها، ومن تفشي ظواهر الإرهاب والطائفية والإثنية، وانهيارٍ لبنىً كثيرةٍ منها البنية التحتية، بل انهيار دولٍ بأكملها في ثوانٍ في عمر الأحداث التاريخية، بعد صراعٍ مع الوهم لسنوات، وضمورٍ لمشاريع التنمية، في معظم ما تبقى، ومعظم ذلك بسبب الثغرات والثقوب الكبيرة في بنية الثقافة والفكر العربي، وفي قطاعات التعليم والإعلام. وأصبح كثيرٌ من الحواضر والعواصم والمدن العربية خرائبَ وأجداثاً، وأثراً بعد عين. وبعد أن كانت الثُّريَّا حلماً وهمَّاً، صارت وهْمَاً، وصار الثرى أقصى مجالات النظر والرؤية. في المقابل نجح العدوُّ على الضفّةِ الأخرى، في تفعيل الثقافةِ والفكر لخدمة وجوده وهويته، وشرعنةِ اغتصابهِ للأراضي والحقوق العربية. فقد نجحت الصهيونية في بث صورتين متلازمتين لليهودي، وللإسرائيلي: الأولى لليهودي المضطهد من قبل النازيِّة، وما وقع عليه من ظلمٍ وقتلٍ وتعذيب وتهجير، مع تكريسٍ للمحرقة، والعداءِ للسّاميّةِ. والثانيةِ للإسرائيليِّ الديموقراطيِّ المنتصرِ، ولدولةِ إسرائيلِ الفتيّةِ القويّة. وقد استخدم الصهاينة الثقافة عبر السينما، وصناعة الأفلام في هوليوود، والدول الأوروبية، وعبر التشكيل والموسيقى ومجمل الفنون، وعبر الكلمةِ حين أدركوا سرَّ قوتها، فسيطروا على الإعلام العالمي. وكذلك عبر سطوة السلاح والقوة الضاربة في فلسطين ومحيط محيطها. ... ... ... * المقاطع المقوسة للشاعر كاتب المقال.
مشاركة :