- الرياض ها نحن اقتربنا من الوداع وقد أمطرتِني بكرمكِ من كل خير من غيوم اللغة العربية الفخمة، ولوّنتِ أرضيَ بكلّ صنفٍ بهيج، فقلتُ أهديك كعادتنا نحن العرب أهل اللغةِ والندى شعراً وعطراً، وحرصت أن يكون غيضاً من فيض الشعراء، ولم يطل بحثي عما يليق بك، فأنا عاشقٌ للشعر العربي قديمه وجديده، وما دونتْه عقولنا الجميلة من المشرق إلى المغرب العربي، فاخترت لك باقتين، الأولى شرقيةٌ، وأنا محبٌّ لطرفة بن العبد: رأيتُ بني غبراءَ لا ينكرونني ولا أهلُ هذاك الطِّرافِ الممدّدِ ألا أيُّهذا اللائمي أحضرَ الوغى وأن أشهدَ اللذّات هل أنتَ مُخلِدي؟ أرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بمالِهِ .. كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَةِ مُفسِدِ. فما لي أراني وابنَ عمّي مالِكا متى أدن منه.. ينأ عني ويبعد على غير شئٍ قلتهُ غير أنني نَشَدْتُ فلم أُغْفِلْ حَمُولةَ مَعبَد. وهنا تعالي ننظر إلى عظمة لغتنا، وغزارة مياهها وألفاظها، وكيف يمكن أن يتفتق بيتٌ واحدٌ عن جمال لا نهاية له، بل كيف يمكن لمفردةٍ واحدة وهي غبراء أن تكون بهذا الثراء؟! وقد اخترته لأنها الأقرب إلى حال الناس في معظم أوطاننا اليوم بعد أن غمرتها الفوضى والفتن والحروب: «وبنو غبراء الفقراء، وقيل الغرباء، وقيل الصعاليك، وقيل هم القوم. يجتمعون للشراب من غير تعارف. وقيل: هم الذين يتناهدون في الأسفار. الجوهري: وبنو غبراء الذين في شعر طرفة المحاويج. قال ابن بري: وإنما سُمي الفقراء بني غبراء للصوقهم بالتراب، كما قيل لهم المدقعون للصوقهم بالدقعاء، وهي الأرض كأنهم لا حائل بينهم وبينها.. وقوله ولا أهل مرفوع بالعطف على الفاعل المضمر في ينكرونني، ولم يحتج إلى تأكيد لطول الكلام بلا النافية؛ ومثله قوله سبحانه وتعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا}.. والطِّراف: خباء من أدم تتخذه الأغنياء؛ يقول: إن الفقراء يعرفونني بإعطائي وبري، والأغنياء يعرفونني بفضلي وجلالة قدري.. وفي حديث أويس: أكون في غبر الناس أحب إليّ، وفي رواية: في غبراء الناس، بالمدّ، فالأول في غبر الناس أي أكون مع المتأخرين لا المتقدمين المشهورين، وهو من الغابر الباقي، والثاني في غبراء الناس بالمد أي في فقرائهم؛ ومنه قيل للمحاويج بنو غبراء كأنهم نسبوا إلى الأرض والتراب» اللسان. والثانيةُ باقةٌ من أزهار المغرب العربي والأندلس، فنحن في غمرة انصهارنا في الشعر هنا في المشرق تناسينا أو نسينا درره هناك، كهذا الجمال المكلل بالغين للسان الدين بن الخطيب: زَارَتْ وَقَدْ صَرَفَ العِنَانَ الغَيْهَبُ وَالصُّبْحُ يُنْشَرُ مِنْهُ بَنْدٌ مُذْهَبُ وَالزَّهْرُ فِي نَهْرِ المَجَرَّةِ بَعْضُهَ يَطْفُو بِصَفْحَتِهَا وَبَعْضٌ يَرْسُبُ وَكَأَنَّمَا الفَلَكُ المُكَوْكَبُ غَادَةٌ زُفَّتْ وَحَلَّ لَهَا الحُلِيَّ المَغْرِبُ بِكْرٌ مِنَ السَّحْرِ الحَلالِ بِبَابِلٍ تُنْمَى إلَى هَارُوتِهِ إِذْ تُنْسَبُ مَحْجُوْبَةٌ فِي خِدْرِ طِرْسٍ دُونَهَا لِلْحُسْنِ مِنْ غُرِّ المَعَانِي مَوْكِبُ. ما أجملَ بعضُه يطفو بصفحتها وبعضٌ يرسبُ، ولسانُ الدين كلِفٌ مغرَمٌ في غزلهِ غالباً، كصاحبه الأندلسيّ الضرير الحصري القيرواني: كلِفٌ بغزالٍ ذى هيَفٍ خوفُ الواشين يشرّدُهُ والغُرْم والغَرام من أُغرِمَ بالشيء أي أولِع به، ومن ذلك كثرة اسم غرم الله لدى قبائل جنوب الجزيرة العربية كغامد وزهران، أما الغرْم في الحبِّ فهو الهمّ والألم. «والغَرَامُ الشر الدائم والعذاب وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (65) الفرقان، قال أبو عبيدة أي هلاكاً ولزاماً لهم.. ورجل مُغْرَمٌ من الغُرْمِ والدَّيْن، والغَرِيمُ الذي عليه الدَّيْن يقال: خُذ من غريمِ السوء ما سنَح، وقد يكون الغريم أيضا الذي له الدَّيْن قال كثيّر عزّة: قضى كلَّ ذي دَّيْن فوفَّى غريمَهُ وعَزَّةُ ممْطولٌ.. مُعنّى غريمُهَا!! إذا سُمْتُ نفسي هجرَها واجتنابَها رأَتْ غمَرَاتِ الموتِ في ما أَسُومُهَا ولا ننسى هذا البيت الجميل ومغزاه الذي ينطبق على حال بعضنا اليوم: فلا تزجرِ الغَاوينَ عَن تَبَعِ الصِّبا وأَنْتَ غَويُّ النَّفسِ قِدْماً سقيمُها وأغْرَمَهُ وغَرَّمَهُ تَغْرِيما بمعنى والغَرَامَةُ ما يلزم أداؤه وكذا المَغْرَمُ والغُرْمُ وقد غَرِمَ الرجل الدِّيَّة بالكسر غُرْماً»*. وقد ذكرتُ لكِ في أول لقائنا أغزلَ بيتٍ قالته العرب، وهو لجرير، مع أنني لا أحبذ المفاضلة في تقييم الشعر، وله أيضاً أهجى بيتٍ حسب رأي واحدٍ من بني عذرة في مجلس أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فسارت الناس على رأيه من بعد، رغم ما في الرواية من مبالغة: فَغُضَّ الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ فَلا كَعباً بَلَغتَ ولا كِلابا وهو لا يقف عند هذا، ولكن: فلولا الغُرُّ من سَلَفي كِلابٍ وكعبٍ، لاغْتَصَبْتُكُمُ اغتِصابا وقد نستغرب فنسأل كيف تجتمع رقة العيون التي في طرفها حورٌ في شعره مع هذا الهجاء الفاحش؟! وربما غلَبَتنا شواهد البحث في التاريخ والواقع فغاب استغرابنا مع كثرة التناقضات في النفس البشرية، وفي مجتمعاتنا، ووفرة النقائض في شعرنا العربي!! * قاموس المعاني، بتصرف وإضافات من الكاتب. - mjharbi@hotmail.com
مشاركة :