غربت شمس تركي السديري، وستصحو سماوات الرياض بلا وجود له بين الساعين في أرضها. لا أدري كنه هذه المشاعر الغامضة التي تعتري دواخلي كلما ورد اسم تركي السديري؛ فالرجل جزء من حقبة ثرية في تاريخ الصحافة السعودية، بل الخليجية، والرجل قلم لم تهدأ بروقه ورعوده اليومية المؤثرة في عالم الصحافة الوطنية لسنوات طويلة، والرجل عوالم تضج بأسرار الصحافة ودهاليزها وضغوطها وخباياها وأسرار النجاح فيها. بحكم تشرفي بالعمل سابقًا ولسنوات طويلة في صحيفة (الجزيرة) كنت شغوفًا بكواكب الصحافة السعودية، وكان السديري ضمن الصف الأول من هذه الكواكب؛ فكنتُ أتابعه بحيادية واهتمام؛ فالرجل صاحب مفردة ثرية ومتجددة وعميقة وبسيطة ومؤثرة، وفوق ذلك كان ملمًّا بكثير من التفاصيل حول جميع ما يجري؛ ولذلك كانت سطوره شديدة السطوع حين يكتب، واضحة الشفافية حين يعبِّر، عميقة الدلالة حين يفصح. لم يكن هذا وحده ما يجذبني للرجل؛ فالسديري قاد إحدى التجارب الباهرة في الصحافة العربية، واستطاع بقيادته المحنكة لصحيفة الرياض أن يضعها ضمن الصحف الرائدة محتوى وتأثيرًا، بل جعل منها أيقونة في صناعة رأي عام مستنير بما حشده من طواقم تحريرية وأقلام موهوبة ومؤثرة؛ فكان جزءًا فاعلاً في الحراك التنموي الذي انتظم بالمملكة خلال العقود الأخيرة. كنت وغيري كثيرون من محترفي الصحافة نراقب يوميًّا محتوى الرياض، ونتلمس بنقد شفاف مواقع القوة والضعف فيه، ونطرب حين نجد لمسات النجاح والإبهار تتوزع في كثير من صفحات الصحيفة حاملة بصمة السديري، ومضيفة لأساليب الصحافة أنماطًا من الإبداع والتجديد، بما كان له الأثر اللاحق على كل التجربة الصحفية في المحيط المحلي. كانت ثقتي كاملة أن ما يجري من تنافس (لدود) بين صحيفتَي الجزيرة والرياض هو عربون النجاحات التي ظلت تحققها الصحيفتان ضمن المراكز الأولى في المملكة؛ فقد أثمر هذا التنافس تطويرًا مستمرًّا في صناعة الصحافة، ورُقي محتواها، وظل تركي السديري يقود ركب النجاح في الرياض، في حين سرت العافية واحتشد النجاح في العهدين اللذين قادهما خالد المالك في تاريخ صحيفة الجزيرة. هكذا أصبحت الصحيفتان جناحَي طائر عملاق، يحلق في سماء المملكة، مع عدم غمط الآخرين نجاحاتهم المقدَّرة، وملأتا الفضاء بحيويتهما وصوتهما وجاذبيتهما، كما أصبحتا محضنًا لتفريخ الكوادر الصحفية الشبابية المتميزة، التي استمر بعضها عطاء مثمرًا في الصحيفتين، في حين رفدت كلتاهما بقية الصحف المحلية والإقليمية والدولية بعناصر ترعرعت ونمت في كنف مدرستَيْ السديري ومدرسة المالك الباهرتَيْن. إن غياب السديري عن المشهد الصحفي فجيعة عميقة الأثر على كل من عايش جانبًا من التاريخ المعاصر للصحافة السعودية؛ فعلى الرغم من أن السديري انقطع مؤخرًا عن التواصل بحكم ظروفه الصحية، لكنه كان موجودًا بأنفاسه وتجربته وهيبته، وهذا ما جعل رحيله نبأ حارقًا للكبد في ظل ظروف مستجدة، تواجهها صحافة الورق، وتحتاج إلى رجال أشداء لمواجهتها، وتقليص آثارها السلبية إلى أن تتضح معالم المسار في المرحلة القادمة. خالص العزاء لكل الأسرة الصحفية السعودية، ولكل الزملاء في (الرياض).. ولأبناء الفقيد وأسرته، مع خالص الدعاء له بالرحمة والمغفرة. {إنَّا للهِ وإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون}.
مشاركة :