الحالة الدينية المعاصرة في مصر: اغتراب وتوتر وعنف مجتمعيكشفت الأحداث التي أعقبت ثورة 25 يناير 2011 الغطاء عن تحركات وأنشطة وممارسات كانت تعمل منذ عقود بصمت في عمق المجتمع المصري، مستغلة حالة التدين الطبيعية والعلاقة الفطرية بين المواطن والدين. ومع تطور الأوضاع تحولت الحالة الدينية من ممارسة اجتماعية طقسية ذاتية إلى ممارسة سياسية تتغلف بشعارات وحجج دينية. أدى هذا التغيير إلى قلب معطيات كثيرة في صلب المجتمع المصري وسلوك أفراده، وهي لئن كان محورها الأساسي المسلمون، إلا أنها أثرت على بقية الطوائف في البلاد، والتي وجدت نفسها مضطرة للتفاعل وحماية أطرها من هذه التغييرات.العرب محمد الحمامصي [نُشر في 2017/05/18، العدد: 10636، ص(6)]غرس فكرة الولاء والطاعة منذ الصغر القاهرة – يعتبر التدين الظاهرة الأخطر في المجتمع المصري، كونها ظاهرة معقدة ومركبة وملتبسة. وتشتبك هذه الحالة مع حركة المجتمع على اختلاف زواياها؛ لذلك كانت الحاجة ماسّة إلى دراسة الظاهرة من منظور شامل بمستوياتها ومؤسساتها وتجلياتها وآثارها وتحولاتها من فترة زمنية إلى أخرى، ومن الجانب الشعائري التعبدي إلى ما هو ثقافي اجتماعي وسياسي اقتصادي. وفي ظلّ هذا التغيير الديني-المجتمعي، تتوجّب إعادة قراءة الظاهرة الدينية بناء على تقارير علميّة موثقة، أملا في المزيد من الفهم والتفسير، وسعيا إلى تمكين الباحث والمهتم من نظرة وصفية، لكن ببعد تحليليّ وتفسيري، لما يعتمل من أسئلة التديّن في ظلّ مجتمع متحوّل. الفرق بين التدين والدين تمثّل دراسة الحالة الدينية في مصر، في الفترة من 2010 إلى 2014 التي أنجزتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث بالتعاون مع مركز دال للأبحاث دراسة موسوعية وشاملة لهذه الظاهرة. وترصد في سبعة مجلدات من الحجم الكبير في تداخلات سياقات المجتمع مع الحقل الديني بتنوعه الديني والمذهبي (المسلمون – الأقباط – اليهود – المهمّشون دينيا). وتطلّب إعداد هذه الدراسة أكثر من أربع سنوات، انكبّ خلالها ما يقرب على 70 أستاذا أكاديميا ومتخصصا وخبيرا في علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي، بخلاف مساعدي الباحثين، والباحثين الميدانيين، على جمع مادّتها، وتصنيفها وتحليلها في فترة عصيبة مليئة بالتوترات السياسية والدينية والعنف المجتمعي. وأكد الباحث يونس قنديل رئيس مؤسسة مؤمنون بلا حدود والمشرف العام على الدراسة، أن الموسوعة ذهبت في تحديد موضوعها إلى ما ذهب إليه العديد من الباحثين من أنّ الفعاليات الدينية تُوصف وتُحلل، باعتبارها “تدينا” وليس دينا.يونس قنديل: الدين هو الأفكار والقيم والمعتقدات أما التدين فهو الطقوس والممارسات وقال “نحن نميل إلى التعامل مع الظاهرة باعتبارها حالة تديّن لا دخل لها بالمعتقدات في حد ذاتها؛ فالدين هو مجموعة الأفكار والقيم والمعتقدات التي يؤمن بها المتديّنون. أمّا التدين فهو مجموع الطقوس والممارسات والعبادات والشعائر والمظاهر المتعلقة بالدين، والتي يتمسّك بها المتديّنون”. ولفت إلى أن أقسام الدراسة تنبني على تأويل التجربة الدينية في مختلف تعبيراتها، انطلاقا من مهمة البحث عن تأثير المنظومات الدينية في المجتمعات التي تشكلت عبرها والعكس أيضا، حول المعنى السوسيولوجي لمختلف أشكال التعبير الفكري والعلمي للتجربة الدينية من أساطير ومذاهب وصلوات وقرابين وطقوس…إلخ. وأكد يونس قنديل أن اختيار الأعوام ما بين 2010 و2014 جاء مقصودا كون هذه الفترة مثّلت منعطفا مهمّا في مجرى ظواهر التديّن وانعكاساتها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فمع اندلاع ثورة 25 يناير 2011، برزت أدوار سياسية جديدة أدّتها قوى إسلامية عديدة في ظلّ مناخ سياسي خصب، ما أعطاها تصريحا بالمرور (بريئا كان أو غير بريء) للمشاركة في مؤسسات الحكم وعملية صنع القرار السياسي. ومع أحداث 2011، استكملت ظاهرة التأسلم دورة صعودها، التي استمرّت لما يقرب من ثلاثة عقود، كانت أثناءها تخترق المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية في مصر. وإثر ثورة 25 يناير، انتقلت الحالة الدينية من محض استلهامات خلقية ومعيارية وسلوكية للمجال الخاص إلى الهيمنة العلنية على المجال العام سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وإعلاميا. وفي سياق سعيها للحكم، رفعت هذه القوى مجموعة من السياسات والشعارات التي يمكن أن تكون مجرّد وسيلة لاعتلاء كراسي الحكم وليس، بالضرورة موقفا أيديولوجيّا أصيلا، وإن كان ذلك لا ينفي حدوث تطوّر فكريّ للقوى الإسلامية الصاعدة، استجابة للأوضاع السياسية والاقتصادية الجديدة والمتغيرة في المنطقة، وللموقف الدولي. وقال يونس قنديل إن القوى الإسلامية توّجت صعودها في مصر باعتلائها قمّة السلطة السياسية محققة لظاهرة التأسلم مبتغاها في الهيمنة على مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، وذلك على عدّة محاور ومستويات: * المستوى الاجتماعي: تحوّلت ظاهرة التديّن الرمزي والسلوكي إلى ظاهرة اجتماعية تغلغلت في أوساط اجتماعية عديدة؛ فقد امتدّت الحالة الدينية-الإسلامية إلى المجال السلوكي؛ أي إلى نظام اللباس والأداء الجسدي ولغة التفاعلات اليومية… إلخ، بكلّ انعكاسات ذلك، النفسية والإدراكية والثقافية والقيمية، وأكثر من ذلك، إلى المكوّن الاجتماعي، كالأدوار الاجتماعية للمرأة ونظام الزواج في مصر وبعض مدارس التعليم التي تسمّي نفسها إسلامية ومؤسسات تجارية توظّف الرمز الديني كدعاية.الرموز الدينية أدت دورا مهما في تعبئة الذهن الجمعي في ذروة الأحداث بعد 25 يناير 2011، وسرعان ما تجاوزت تلك المهمة إلى تجييش الفئات الدينية في المجتمع في حالة من الصراع والعنف الجسدي المتبادل، وتأجيج المشاعر العدائية إزاء الآخر الديني. وفي المقابل، حرصت الطوائف الدينية الأخرى في مصر على إبراز طابعها الرمزي في مواجهة تنامي عملية الأسلمة. وجعل هذا الواقع الطوائف الدينية كافة تندفع باتجاه تأكيد خصوصيتها وتمايزها في سياق تناحري. * المستوى السياسي: نجح عدد من التنظيمات الإسلامية السياسية الراديكالية، في أطروحاتها الأيديولوجية أو منحاها الحركي، في الوصول إلى موقع بارز في السلطة السياسية. وكانت تلك التنظيمات قد مثّلت، في ما سبق، تحديا للنظام السياسي، حيث وظّفت نمطا من التأويلات الفقهية لتوظيف العنف الاجتماعي والسياسي ضدّ الصفوة السياسية الحاكمة. بيد أنّ وصول الإسلاميين إلى السلطة أو على الأقل رضاهم عن القوى المسيطرة على النظام السياسي الحاكم، وتحالفهم معه، جعلهم يُعيدون توجيه طاقة العنف الديني، الرمزي أو الجسدي، تجاه قوى مجتمعيّة وسياسية مدنية حسبوها في عداد القوى المناوئة لخطّتهم في تديين المجتمع. وكان الطريق، الذي وضعته الحركة الإسلامية، كحركة سياسية واجتماعية، للوصول إلى مراميها في اعتلاء الدولة، قد بدأ منذ عقود، بأطروحة كليّة وإطلاقية تتمثّل لديها في تطبيق نظام الشريعة القانوني. مثّل هذا الطرح جزءا من سياسة تستخدم نظام الشريعة على عدة مستويات تستهدف، أساسا، توظيفه كأداة لإسقاط الشرعية عن النظام ونخبة الحكم، وتقويم للقوانين والسياسات العامة والمؤسسات ونظام للمعايير، والتمييز بين المؤمنين وغير المؤمنين، وبينهم وبين الآخر الديني أيضا. إذا، لم تعد المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية محض دعوى دستورية أو نزعة قانونية أو حقوقية، كما كان الأمر حتى مفتتح عقد السبعينات في القرن الماضي، وإنّما هي مدخل كليّ وداخله مجموعة فرعية وهجومية، وسجالية مع بنيات الأفكار، والنظام السياسي والمجتمع المصري. وكان وصول قوى إسلامية بعينها إلى موقع السلطة مثار ترقّب في ما يتعلّق بإعادة صياغة محتوى المنظومة التشريعية. وهنا، حدث نوع جديد من الفرز؛ فالقوى، التي امتلكت الآلة السياسية، أصبحت أكثر حرصا على الاستمرار في مواقعها الجديدة، والاستجابة ببراغماتية عالية للتوازنات التي تعكسها التشريعات القائمة، ومن ثَمَّ كان عليها تبنّي سياسة التدرّج المتمهّل في أسلمة القانون والتشريع، بينما واصل حلفاؤها من القوى المتأسلمة الأخرى ضغوطهم من أجل الأسلمة الفورية، وتطبيق الشريعة كاملة غير منقوصة. وأدّى صعود القوى الإسلامية إلى مستويات القيادة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر إلى تغلغلها داخل مراكز السلطة الدينية المؤسسية؛ وأصبحنا إزاء ظاهرة النزاع حول من يمتلك حقّ الحديث باسم الإسلام داخل تلك المراكز ومن له سلطات التفسير. ولم يعد النزاع قاصرا على مواجهة المراكز الجديدة للسلطة الدينية، وإنّما داخلها. ويظهر ذلك جليّا في النزاع والتنافس على الأدوار بين شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ووزير الأوقاف. ووراء كلّ مؤسسة مؤيّدون ومراكز دعم، من ناحية، وبين الطرف الثاني المتمثل في عدة مراكز هي الإخوان والقوى الإسلامية الراديكالية ومنظّروها وكوادرها، من ناحية أخرى.المساجد هي العمود الفقري للنشاط الاجتماعي والدعوي للإخوان ثم تأتي المراكز الثقافية والتعليمية والروابط المهنية اقتصاديات التدين أوضح سامح محمد إسماعيل رئيس هيئة تحرير الدراسة أنها ضمت عددا من الملفّات البحثيّة الشائكة والمسكوت عنها، والتي تمثلت في الظواهر والأنشطة والمؤسسات الدينية؛ حيث تم الاعتناء بدراسة الظواهر والأنشطة المرتبطة بالأديان الأساسيّة في مصر، وهي الإسلام، والمسيحية، واليهودية، ومذاهبها المختلفة، ومؤسساتها الرسمية وغير الرسمية. وتمت دراسة القوى والحركات الدينية المسيّسة وذلك بتتبع عوامل نشوء الظاهرة الإسلامية السياسية، وتقسيماتها التنظيمية واتجاهاتها الأيديــولــوجية وسياساتها تجاه الدولة، وتقديم بنية معلوماتية دقيقة حول الجماعات الإسلامية الإخوانية والراديكالية والخيرية، وبنياتها الاعتقادية والتفسيرية، وهياكل القوة الداخلية والخارجية، وآليات السيطرة والمكانة، والعلاقات بين هذه المؤسسات والمواطنين والأتباع، وبينهم وبين الدولة، وأشكال التفاعل، والتكيّف، والصراع، والتنافس، والمهادنة، والالتفاف، والمنافسات الداخلية بين أقطاب هذه المؤسسات داخليّا وبين هؤلاء وأقرانهم في المؤسسات الأخرى. ومن بين الملفات الشائكة التي تم بحثها كان ملف اقتصاديات التدين أي البنية التحتية الاقتصادية للممارسات الدينية. وداخل هذا الملف جاءت دراسة “البنية الاقتصادية لجماعة الإخوان المسلمين” التي أكدت أن المساجد هي العمود الفقري للنشاط الاجتماعي والدعوي للإخوان سواء في أوروبا أو في غيرها من بلدان العالم. ثم تأتي المراكز الثقافية والتعليمية والروابط الاجتماعية والنقابات المهنية التي تمثل شرايين الحياة والاستمرار لهذه الجماعة وخلاياها في بلاد المهجر. وكشفت الأحداث عن القدرات المالية والاقتصادية الهائلة التي يتمتع بها هذا التنظيم السياسي في مصر، والشبكة التمويلية الضخمة، التي يوفرها التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في الكثير من دول العالم، والتي أدّت دورا بالغ الأهمية في دعم سياسات الجماعة. وتوصّل الباحثون إلى أن حركة بناء وإقامة المساجد في الولايات المتحدة والدول الغربية تضاعفت بسرعة كبيرة خلال العقدين الماضيين، بما يتناسب مع نمو نشاط الجماعات الإسلامية من ناحية وزيادة عدد المهاجرين والمبعوثين المسلمين إلى هذه البلاد من ناحية أخرى. عبر هذه المراكز والجمعيات والمنظمات المهنية والخيرية (جمعيات الأطباء والمهندسين… إلخ) تقوم هذه الخلايا باختراق المجتمعات، ومن خلالها تنجح في الاقتراب أكثر فأكثر من الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية ومراكز البحوث والأفكار، وغير ذلك من النشاطات المتنوعة والمختلفة. القوى الدينية والإعلام تقدم الدراسة تحليلا موثقا لمؤسسات الإعلام الديني الرسمي في مصر وتحليلا لخطابها. وترصد تقلّب الخطاب الإعلامي الإسلامي صعودا وهبوطا، بحسب معطيات الظروف المحيطة بالجماعات التي يعبّر عنها، ويدافع عن مصالحها، وذلك من خلال قراءة بعض العينات من الصحف الإسلامية، وتحليل مضمون بعض البرامج الفضائية الإسلامية. وكشفت دراسة تحليل مضمون عينة من برامج الفضائيات الإسلامية أن الخطاب الديني لمشايخ الفضائيات يهدف بالدرجة الأولى إلى تربية الشباب على طاعة المشايخ باعتبارهم أولي الأمر. وهذا الجمهور المستهدف من الشباب الذي تربى على فكرة السمع والطاعة لأولي الأمر من المشايخ على الرغم من أنه كان يتم استقطابه من خلال موضوعات ومشكلات بعيدة عن السياسة، هو نفسه من يشكل جيوش المواجهة مع المجتمع المدني فترة حكم الإخوان. كاتب مصري
مشاركة :