مع نشر هذا المقال يكون الرئيس ترامب على وشك إنهاء زيارته التاريخية للمملكة، بكل ما يحمله الحدث من مسؤوليةٍ تقع على عاتقها، وفرصةٍ يفتح أمامها ومعها العرب والمسلمون نوافذ إيجابية، وتحدٍ لايمكن القفز عليه بمنطق الحماسة والاكتفاء بحصول الزيارة، حتى مع فعالياتها الكبيرة.وإذ تُعبّرُ الزيارة، بحد ذاتها، عن الدور المحوري والأساسي للمملكة، إقليمياً وإسلامياً وعالمياً، فإن حصولها، بطبيعتها وأحداثها، يرفع درجة المسؤولية الملقاة على عاتق بلدٍ شاءت الأقدار أن يكون مهد الحرمين الشريفين ومنبت العروبة، وأحد أكبر الخزانات الاقتصادية للعالم، هذا فضلاً عن موقعه الفريد في حسابات الجغرافيا/السياسية التاريخية والمعاصرة.ثمة مقولةٌ تبدو صحيحةً، من مجال العلاقات الدولية إلى مجال صناعة برمجيات الكمبيوتر مروراً بالاجتماع البشري، يتعلم فيها طلاب المعرفة أن ثمة تناسباً طردياً بين (القوة) و(المسؤولية). بمعنى، أن امتلاك درجةٍ عالية من القوة، كموناً وواقعاً، كما هو الحال مع المملكة، يضع عليها مسؤولية بنفس الدرجة. وهي مسؤوليةٌ تجاه كل من يتأثر بعناصر القوة تلك ويؤثرُ بها، من المواطن السعودي، إلى شعوب الدول العربية والإسلامية. يتأكد هذا تحديداً حين نستحضر الواقع العربي والإسلامي الراهن، ونرى حقيقة الفراغ الكبير في وجود قيادةٍ تسير به نحو الإصلاح والتغيير والتطوير، فضلاً عن الأمن والاستقرار.الواضح أن الشعور بهذه المسؤولية الواسعة أحدُ العوامل الرئيسة في ترتيب اجتماع الرئيس الأمريكي بقادة أكثر من خمسين دولة عربية وإسلامية. فهذا الاجتماع، وإن أفصحَ من جانب عن وزن السعودية ودورها ومقامها، إلا أنه يجب أن يكون مدخلاً لترتيب البيت الداخلي العربي والإسلامي بشكلٍ جديٍ، لم يعد واقع هذه الدول يحتمل الهزل في مقامه. وقد يكون مفيداً، في مثل هذا الاجتماع، إشاعةُ الفهم باستحالة وضع العبء بأسره على المملكة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وممارسة الاسترخاء الكامل داخل كل دولةٍ من الدول الحاضرة، في عملية تواكلٍ لا هي مقبولةٌ بمنطق قوانين الاجتماع البشري، ولا هي ممكنةٌ أصلاً بمنطق الحسابات.وفي ظل الشعور الحقيقي بالمسؤولية تنفتح نافذةُ فرصةٍ استراتيجيةٍ كبرى أمام المملكة، أولاً وقبل كل شيء، وأمام العالمين العربي والإسلامي، أرادت الأقدار لها أن تنفتح، بما أشرنا إليه في المقال الماضي من المدخل الذي سماه هيغل مكرَ التاريخ. وإذ يشيع عن العرب والمسلمين قدرتهم الفائقة على تفويت الفُرص وإضاعتها، في زمنٍ كان يتسامح مع مثل تلك الممارسة لظروف تاريخية، فإن إضاعة هذه الفرصة سيكون مأساةً، أيضاً إستراتيجية، بكل ما ستحمله تبِعاتُها من كوارث على الشعوب والحكومات.من هنا، تظهر الحكمة من تنظيم كل ماسيجري خلال الزيارة من نشاطات ثقافية واقتصادية وفنية وشبابية وعلمية. فهذا الاستثمار هو مايعطي مؤشراً بإدراك حجم الفرصة وطبيعتها، وبوجود إرادةٍ سياسيةٍ لتوظيفها بشكلٍ يمكن أن يُحدث طفرةً في عمليات الإصلاح والتغيير والتطوير المطلوبة بإلحاح.وتمتد الفرصة إلى مجال السياسات الإقليمية خاصةً فيما يتعلق بتقليم أظافر ملالي إيران ووكلائهم في المنطقة بشكلٍ حاسمٍ ونهائي، دون أن يعني هذا بالضرورة إشعال حربٍ سنيةٍ شيعيةٍ شاملة، أصبح الحديثُ عنها من أهم مداخل الهجوم على الحدث التاريخي. ندرك حجم الهجوم المذكور ليس فقط من سيل المواد الإعلامية لمنابر الإعلام التابعة للنظام الإيراني في المنطقة، بل ومن حجم الابتذال الصادر عن صحفي بريطاني مثل روبرت فيسك، يُفترض فيه أن يكون مخضرماً وموضوعياً، لكنه يبدو، باضطراد، أقرب لـ "شبيحٍ" للنظامين الإيراني والسوري. حيث يحصر في مقالاته وتعليقاته الأخيرة كل ماله علاقة بزيارة ترامب في دعوى التخطيط لإشعال مثل تلك الحرب السنية الشيعية الشاملة.في هذا الإطار، تلوح آفاق التحدي الذي يواكب الفرصة الراهنة. لايقف هذا التحدي عند نقطة صياغة إستراتيجيةٍ دقيقةٍ لمواجهة الخطر الإيراني فقط، وإنما يمتد ليشمل تأمين حدٍ أدنى من الرؤية الموحدة، خاصةً لدى الدول الرئيسة الفاعلة في المنطقة. وهذا جانبٌ أشارت إليه تقارير عالمية في معرض حديثها عن زيارة ترامب، ومن خلال الإشارة إلى بعض الخلافات والتوترات المتعلقة ببعض قضايا المنطقة.أما التحدي الأكبر فقد يكمن في دلالات ومُقتضيات ماذكره المحلل الإستراتيجي والنائب السابق لمساعد وزير الدفاع الأمريكي لسياسات الشرق الأوسط، أندرو إكسوم، في مقالٍ له في مجلة The Atlantic الأمريكية قال فيه: "على المدى البعيد، على الدول العربية أن تدرك أن أمريكا لن تبقى في المنطقة [بنفس الزخم والحماس والقدرة] إلى الأبد.. إن لدينا مصالح إستراتيجية في مواقع أخرى من العالم، ولدينا مصادر، تبقى لها حدودٌ نهاية المطاف، لحماية تلك المصالح. فوق هذا، وبوضوحٍ شديد، فإن ضمان عبور بترول الخليج للأسواق العالمية بات أولويةً أقلّ للولايات المتحدة اليوم عنه منذ عقود".
مشاركة :