القاهرة: «الخليج»ظل ماجد يوسف يكتب شعراً مختلفاً بالعامية المصرية، ورغم أنه ينتمي إلى سلالة على رأسها بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين، فإنه كان يكتب القصيدة المواكبة لأبناء جيله، الذين اصطلح على تسميتهم جيل السبعينات، وكان عضوا نشطا ضمن المجموعة التي أسست مجلة «إضاءة 77». نشأ ماجد يوسف في أسرة متوسطة الحال، وكان الابن الأكبر لأب فنان من رجال التربية والتعليم، له علاقة بالأدب والقراءة والتراث، ودرج في بيت لا تغيب فيه الكتب عن العين، يقول: «شجعني هذا الأب المستنير بهذا الحب المتجرد للقراءة والمعرفة، ولعب أعظم الأدوار في حياتي الأدبية رعاية وتشجيعاً وإذكاء لشهوة القراءة ومتعة الجدل العقلي الدائم في أدق وأحرج المسائل».ومع ذلك لم تمنع هذه الاستنارة الأب من الامتعاض حين أخذ الابن يكتب الشعر الحر وبالعامية أيضا، فقد صدم مرتين: الأولى بكتابة القصائد الخالية من الضوابط التي ألفها وعهدها وشكلت جزءا عضويا من نسيجه الروحي، والثانية بالكتابة بهذه اللغة الشعبية المفارقة للغة الشعر الرصين.يقول ماجد يوسف: «كان أبي ديمقراطياً تماماً، لم يكف عن تشجيعي وإن كان هذا لم يمنعه من توجيهي- رغما عني وعن ميولي الأدبية الواضحة التي يعرفها جيدا- للدراسة العلمية التي كنت لا أطيقها، وبذلك لم أحصل على مجموع في الثانوية العامة يؤهلني للالتحاق بواحدة من الكليات العملية التي كان يحلم بها».التحق ماجد يوسف بكلية الفنون الجميلة وتخرج فيها، ولم يستهوه في الدراسة بها إلا الجانب النظري المتعلق بتاريخ الفن، وحاول بعد ذلك تعويض ما فاته فالتحق بأكاديمية الفنون لدراسة النقد، وكان قد بدأ يمارسه على استحياء هنا وهناك، أما عن الشعر فقد استغرق طويلا في كتابته بشكل شبه يومي للعديد من البرامج الإذاعية المختلفة.يوضح: «لا أدري الآن من أين واتتني كل هذه الجرأة حتى ملأت، دون أي مبالغة، «كراتين» من الشعر، وقد دفعتني الدربة المكتسبة من تلك الممارسة اليومية الكتابية للشعر إلى مزاحمة الكبار في هذا الوقت (يقصد الأبنودي وسيد حجاب) فكتبت معهما حلقات عدة من برنامجهما الشهير في ذلك الوقت (1968) «بعد التحية والسلام» ولم أكن قد بلغت العشرين من عمري آنذاك».كانت الكتابة لهذا البرنامج، في هذا التاريخ، إعلانا شرعيا واعتمادا رسميا لشاعر العامية الجديد، وذلك رغم أنه آنذاك لم يكن قرأ بعمق واهتمام حصاد شعر العامية المصرية، ومن ثم أخذ في الالتفات إلى هذا الإنتاج الغزير، وبعد عبور 1973 سعى لإصدار ديوان حماسي كان عبارة عن حلقات إذاعية أعدها بسرعة، معبرا عن انفعالاته بالحرب التي شارك فيها ضابطا احتياطيا، 15 قصيدة شكلت ديوان «ست الحزن والجمال» سلّمه للهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1974 ليصدر في سنة 1980.يؤكد ماجد يوسف: «كنت في هذا الوقت أشعر بالانتماء والإعجاب بالنهج الشعري الذي اختطه سيد حجاب، وأشعر بأنه إذا كان ثمة استكمال فسيبدأ من هذه السكة التي كان حجاب علما عليها، ففي قصيدة حجاب ليس ثمة الزعيق الذي ارتبط إلى حد الإغراق بكل شعر العامية، وهنا وعي حميم بلغة الشعب في مستوياتها الأكثر صراحة، ورفعة، واتكاء على الفلكلور في أنقى مناطقه وأقصى فعاليات خياله المتحرك والمفاجئ، بجدة صوره وأخيلته البكر الجديدة واللافتة، وهنا وعي حاد بماهية الشعر المعاصر عند أعلامه الأوروبيين في الوقت نفسه، وعلاقة حميمة ومتضافرة في القصيدة بالفصحى ومفرداتها التي تطوع في سياق العامية، بلا تعمد أو عسف، وهنا رؤية للواقع وتناقضاته أكثر عمقا ونفاذا من مجرد السطح المتاح».باختصار كانت تجربة سيد حجاب، المفتاح السحري الذي فتح الباب على مصراعيه للعمل على استكمال هذا الإنجاز المتميز في العامية والانطلاق منه والبناء عليه، ولهذا قام ماجد يوسف بإهداء الديوان إلى سيد حجاب، وكان كلما قرأ فؤاد حداد وصلاح جاهين بهره الأول بموسيقاه، والثاني بتأملاته وصياغته المفعمة ببساطة خادعة، إلا أن مرتكز المغايرة والمفارقة كان في جماعة إضاءة 77، بأطروحاتها الجمالية والفكرية والشعرية يقول: أسهمت ورشة إضاءة 77 بالنسبة لي شخصيا في التعجيل بإيقاع تطوري الشعري وتقويم خطواتي الإبداعية حتى قضت قضاء مبرما على كل ما شيدت في سنوات طوال من نجاحات إذاعية وتلفزيونية وغنائية، وألقت بمركبي التي كانت هادئة مستكينة في الشواطئ وأمان الموانئ إلى لجة من الأعاصير والأمواج العاتية».لا يرى ماجد يوسف أن العامية عاجزة أو قاصرة عن حمل الشعر إلى أي أفق يستطيع الشعر- أي شعر- مكتوب بلغة غيرها أن يصل إليها، بل هي قادرة على هذا الوعي، بقدر وعي شاعرنا بالإمكانات الواسعة لأداته وفهمه الشامل والعميق لها، وأن اللغة العامية في حد ذاتها ليست أعجز بحكم تراثها، كما يدعي البعض، عن الوصول إلى رؤية حداثية للشعر وبه في آن معا.ويشير يوسف إلى أن المزاوجة بين العامية والفصحى في هذا الإطار تبقى مشروعة وصحية طالما أنها لم تعد نوعا من التوضيح الخارجي، أو المجاورة السطحية الباردة، وتبقى صحيحة أيضا بقدر دلالتها على الانصهار الكامل بين مفردات اللغتين في بوتقة العمل الشعري، الواحد، فليس المطلوب أن تمارس العامية سلطان الفصحى، فتحاكيها ببغائيا في ترديد إيحاءاتها، وإنما تتبدي الأصالة حقا في أن تشحن اللفظة العامية نفسها بوقود تجربتها الخاصة في معاملاتها مع الواقع، ولا تحوز القصيدة المكتوبة بالعامية هذا الشرف إذا استسلمت لمفهوم ينمو بها نحو الترهل ومنطق التراكم غير المحسوب، انسياقا وراء سهولة المستوى فحسب، فما يحكم بناء القصيدة هو القدرة على التخلص الصارم من هذه السهولة التي سقطت في قبضتها القصيدة العامية لزمن طويل.وبالنسبة لتجربته الخاصة فإن ماجد يوسف ممن يخططون طويلا لكتابة القصيدة، وقد تكتب مثل هذه القصيدة عشرات المرات، قبل أن تستقر على شكلها الذي يرتضيه لها، ولا يستطيع أن يبدأ في كتابة القصيدة إلا إذا كانت مقاطعها ومستويات بنائها واضحة بالنسبة له، ومن ثم فعندما يشرع في الكتابة فإنه يسير على هدي خطة محكمة، ولا يصادر هذا الوعي المسبق والإحكام لعمارة القصيدة، تلك الاكتشافات والمفاجآت التي تحدث عند المعاركة الفعلية للكتابة، لكن تبقى هذه الكشوف متحركة في إطار مظلة التخطيط الأولية، والنهائية ومن خلال تجربته، في أن القصائد التي يكتبها يوسف بلا إعداد سابق أو تخطيط تكون دائما أقل في مستواها من تلك التي تتحرك في إطار مخطط أو محدد سلفاً.يقول ماجد يوسف: «لا يعرف عملي في القصيدة، ولا يعترف، بقداسة من أي نوع للنص، وإنما للقصيدة عندي، حتى بعد انتهائها، حقل مفتوح للتجريب المستمر والتبديل والتغيير والتعديل والتقديم والتأخير والحذف والإضافة، بل قد يصل الأمر في النهاية، وبعد كل هذا الجهد، إلى إلغاء القصيدة برمتها، ومعاودة كتابتها من جديد، حتى إن استمع إليها الأصدقاء وحازت قبولهم، يظل ثمة إحساس بعدم الرضا، يدفعني لتشريح عملي مرات ومرات حتى أرضى أنا أو لا أرضى تماما عن ذلك».
مشاركة :