تم التطرّق فيمن المقالة إلى أن جميع الرسل تعرضوا للمكائد، وأن ذلك نوع من الابتلاء لينالوا أعلى درجات الآخرة، وأن الله -تعالى- لم يترك أنبياءه دون نصرة لهم، وفصّلنا تلك التي عاناها الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم؛ كالتحدي والتكذيب، وتعرّضه للاعتداء، والطعن في أهله، وأخيراً محاولة القتل. إلا أن هناك مكائد أخرى تعرّض لها، نذكرها مفصلةً في هذا الجزء من المقال، وهي: التضييق على قومه، والغدر والخيانة، والطعن في صفاته. وفيما يلي بيان لكل منها:أولاً: التضييق على قومهوأول من تعرَّض للتضييق من أهله عمّه أبي طالب، وذلك عندما جاءته قريش أكثر من مرة يشكونه من ابن أخيه الذي -برأيهم- سبّ آلهتهم وسفّه أحلامهم. فرفض ذلك، ولكنهم خاصموه وعادوه، فاضطر حينها إلى أن يسأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: فأَبْقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق. فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينها قولته الشهيرة: "يا عمِ! والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه- ما تركته". فكان له الأثر الكبير في قلب عمه ليقول له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسْلمك لشيء أبداً. وكان لأبي لهب دور كبير في التضييق على أهل الرسول صلى الله عليه وسلّم؛ فقد حالف قريشاً على مقاطعة بني هاشم؛ فلا بيع لهم ولا شراء، وذلك في صحيفة كتبوها كي يجوعوا ويستسلموا. ثم أمر ولديه بتطليق ابنتي الرسول -صلى الله عليه وسلّم- رقية وأم كلثوم؛ كي يثقل كاهل الرسول الكريم، بحسب رأيه. ثم جاءت حادثة صلح الحديبية والتي تمت تعقيباً على منعه هو والمهاجرين من أداء مناسك الحج والعمرة رغم قدومهم إلى مكة وهم في ملابس الإحرام ومعهم الهَدْي، إلا أنّ الله -تعالى- ألهم رسوله الصبر وقبول الهدنة وعدم التصدي لهم لمنعهم من دخول البيت الحرام رغم مخالفتهم بذلك كل عرف وعقيدة عرفها ذلك الزمان. قال تعالى: "إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِم الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً" (سورة الفتح: 26).ثانياً: الغدر والخيانةومنها بَث الشائعات التي تمس شخص الرسول صلى الله عليه وسلّم وأخلاقه الرفيعة. فقد كانت قريش تقوم برصد كل آتٍ من قبيلة ليسمع ويرى الرسول الجديد لتقول له إنه ساحر حلو اللسان ومن يسمعه يفقد عقله. أو تدّعي أنه كاذب وأن ما جاء به أساطير الأولين، فيرجع الوافد إلى قومه. أما الراشد منهم، فيصرّ على دخول مكة، فإن رأى منها المؤمن وسأله عن محمّد قال عنه كل خير. قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)" (سورة النحل: 24-25). وبعد أن يكشف الله -تعالى- مكرهم، يتوعّدهم بمصير الأمم السابقة بقوله -جلّ وعلا- في السورة ذاتها: "قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)" (سورة النحل: 26-29). وهنا يُشبّه الله -تعالى- جور مكائد الظالمين وظلمهم بالبناء العالي المتعالي، فيسقطه الله ويُدمّر أساسه فيخرّ على أهله فيكون مقبرتهم في الدنيا والنار في الآخرة. كما تحالفت قريش مع يهود المدينة، وذلك بعد أن عاهدوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالسلم والمؤازرة، وسنذكر ذلك عند التفصيل في آيات التسرية إن شاء الله.ثالثاً: الطعن في صفاتهلم يكن كبراء قريش ممن طعنوا في صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- يصدّقون ما أشاعوا عنه مِن أنه ساحر وكاذب وغيرها. وإنما كانت مجرد حرب إعلامية لحماية أنفسهم ومراكزهم من خطر الحق الذي جاء به، والذي زلزل القيم والأوضاع الزائفة التي كانوا يستندون إليها. هذا إضافة إلى الحسد من أن يكون هو رسول الله دون غيره، تماماً كما استنكر أعالي قوم بني إسرائيل من أن يكون طالوت ملكاً عليهم، وهو لا يملك المال والجاه. فبيّن الله تعالى أنه ينزل الفضل على من يشاء بقوله: "أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)" (سورة ص: 8)، وبقوله: "وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)" (سورة الزخرف: 31). وتعددت المكائد التي طعنت في صفات الرسول صلى الله عليه وسلّم؛ منها قيام المنافقين بالتشكيك في عدله بتوزيع الصدقات والغنائم، مثل ذي الخويصر التميميّ الذي قال: أعدل يا رسول الله، وذلك عندما كان يقسم الأموال. فقال له: "ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟". ثم نزل قوله تعالى نصرة لرسوله: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)" (سورة التوبة: 58-60). ومن ضمن الطعون في صفاته الكريمة، استنكار سماحته في استماعه للناس والإحسان إليهم، فقالوا عنه إنه أذُن؛ أي إنه يسمع لكل قول، ومن ثم فهو فريسة للخداع، فلا يفطن إلى غش في قول أو كلام زور وإن حلف له القائل، وهنا ينصره الله تعالى فيقول إنه أذُن خير باستماعه إلى الوحي ومن ثم إبلاغه للناس لتحقيق خيرهم وصلاحهم. قال تعالى: "وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)" (سورة التوبة: 61). وكان لزواجه بزينب بنت جحش ما جعل أعداء الإسلام يطعنون من خلاله في شخصه الكريم ويلفّقون حوله الأكاذيب. كما لم تترك قريش مصائبه وأحزانه دون أن تطعن فيه من خلالها، فقال السفهاء عنه إنّه أبتر؛ وذلك لموت أطفاله من الذكور، فيقول آخر: دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره، وذلك في نوع من السخرية والاستهزاء منه وأنه لا داعي لإشغال النفس بمحاربته وعداء دينه. فأنزل الله -تعالى- سورة كاملة تسرّي عن نفس الرسول الكريم من هذا القول بالتحديد، بقوله جلّ وعلا: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)" (سورة الكوثر: 1-3). فالله -تعالى- يبيّن أنه أعطى رسوله الخير الكثير كوثر من كوثر، وفي الدنيا والآخرة، وأقلّه رفع اسمه وذكره إلى يوم الدين، فأيٌّ ممن استهزأ به استمر وامتد اسمه كالرسول الكريم؟ فالدعوة لا ولن تكون بتراء والحق سينتصر في المعركة الخالدة بين الإنسان والشر، إلا أن الناس تحسب بمقاييسها وتغفل أن الله -تعالى- لديه مقاييس لا يفقهونها فينخدعون ويغترّون بما يفعلون ويتجبرون في هذه الدنيا. فسبحانه نصر عبده وأنجز وعده. ومن الجدير بالذكر أن هذه المكائد التي حاولت إيذاء الرسول الكريم لم تكن وحيدة الطابع؛ بل لجأ المشركون إلى الكيد الناعم من خلال محاولة فتنته عن الدين الجديد؛ مرة يعرضون عليه الملك والأموال والجاه، ومرة أجمل النساء، وأخيراً يدعونه إلى الصلاة لآلهتهم كما يدعوهم هو إلى الله، فيتشاركون في عبادة الله والأصنام، فيرد الله عليهم بإنزاله سورة كاملة لما فيها من كيد عظيم بقوله جلّ وعلا: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)" (سورة الكافرون: 1-6). ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :