مقالة قديمة تصلح للشوشرة التي نعيشها هذه الأيام.ارتبطت الديموقراطية في مخيلة العالم على أنها قيمة أخلاقية مطلقة ومطلوبة لوحدها ولذاتها. فبسبب تسيّد الأميركيين سدة الحكم العالمي والشحن الإعلامي، ظن الناس أن الديموقراطية هي الحالة الأخلاقية الوحيدة المُثلى والأرقى في الفكر السياسي، أما ما دونها فلا يُمكن عدّه سوى أنه شر مطلق، وبالتالي لا يجوز الاقتراب منه وتجب محاربته بشتى الطرق، والسعي نحو القضاء عليه وعلى وجه السرعة بلا تردد.في حقيقة الأمر، الديموقراطية ليست سوى شكل من أشكال الحكم السياسي، وكل ما في الأمر أنها تمتاز عن غيرها بإيجاد مساحة أكبر لحكم الناس بأنفسهم، مع ملاحظة أن هذه المساحة تختلف وتتباين وتزيد وتنقص، حسب المجتمع والثقافة السائدة. الجدير بالذكر والشيء المؤكد بالنسبة للديموقراطية، أنه لا يجوز أن نصنفها على أنها نظرية سياسية لأن النظرية بشكل عام تكون قادرة على شرح المشكلة، وهذا ما لا تجده لدى الديموقراطية.بمعنى أن النظرية هي مجموعة الأفكار التي يعتقد صاحبها بأنها قادرة على توضيح وتشخيص وحل المشكلة (قاموس Mariam-Webster). وبالتالي لو افترضنا ان الديموقراطية نظرية سياسية، لقلنا بأنها قادرة على تفسير وحل مشكلة الحكم والعلاقة بين طرفيها (الحاكم والمحكوم)، وهذا ما تفتقر إليه الديموقراطية أساساً. فهل استطاعت الديموقراطية حل مشكلة الحكم السياسي بالعالم ككل؟ الجواب لا!كان مُلفتا لي مقالة كتبها الدكتور شملان العيسى قبل أيام تحدث فيها عن ديموقراطيتنا في الكويت، الفاشلة، وطرح تساؤلاً: هل يمكن اصلاحها؟ في حقيقة الأمر ينطلق تحليل العيسى من مبدأين أساسيين، أو قل افترض أمرين أساسيين: أولاً أن الديموقراطية نظرية سياسية واضحة وواحدة ومحددة ومفهومة لدى الجميع وكل ما في الأمر أننا في الكويت لم نطبقها بشكل صحيح. أما الافتراض الثاني، الديموقراطية نظرية أخلاقية ملائكية ولا يجوز العيش إلا في ظلها (خير مطلق)، ومن ثم حذرنا من الانحراف عنها لأن البديل الآخر (بغض النظر عما هو) لن يكون سوى شر مطلق. لذا دعونا نناقش هاتين النقطتين بشيء من التحليل، ولننظر هل فعلا الحقيقة هي، وكما جاء في كلام الدكتور وكما يعتقد أغلب الناس. بداية، يصعب بل ويستحيل على أحد أن يُصنف الديموقراطية على أنها نظرية لانه لم يُوفّق أحد لشرحها وتبويبها ويكشف لنا بالضبط عن معناها الحقيقي. فكل الفلاسفة رواداً ومعاصرين تورطوا وانقسموا وتباينوا عن تفسير واضح لها. فالاختلافات كثيرة ومتنوعة ومتغيراتها غير محددة، فهي فضفاضة لحد بعيد وتتنوع ابتداءً من صناديق الاقتراع الى مؤسسات المجتمع المدني إلى نوعية ونسب وسن التصويت إلى الأحزاب ومفاهيم تتعلق بتداول السلطة والمدد الزمنية وقضايا أخرى كثيرة.فلاحظ كم الفارق كبير بين الدول التي تدعي الديموقراطية وبأنها تمارسها تنظيراً وروحاً بحسب زعمها اعتماداً على هذه المقاييس المتمايزة؟ فما أوجه التشابه مثلاً بين أميركا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا؟ أليست أنظمتها السياسية تمارس الديموقراطية بأشكال متنوعة، وهل يستطيع أحد أن يضمن حقيقةً وواقعاً إن كانت الأنظمة السياسية الحاكمة حقاً تعكس أغلبية شعوبها (راجع مثلاً فكرة المجمع الانتخابي الأميركي ونجاح ترامب أو بوش الابن).أما السؤال الثاني، إن كانت الديموقراطية تعتبر قيمة أخلاقية فهذا أيضا يصعب الجزم به وبعيد عن الواقع. فكثرة الحروب الدولية وعدم الاستقرار والتوتر العالمي وانهيار الاقتصادات العالمية والتوترات الدولية بما فيها علاقات بين الديموقراطيات (أميركا مقابل أوروبا وروسيا مثلا بسبب فضائح التجسس وتغيير موازين القوى)، أدلة على ضعف الديموقراطية كنموذج للسلام وباعتبارها قيمة أخلاقية.نعم قد يقول القائل إنها نجحت في بعض الدول، وبالتالي يمكن عدّها وكأنها «النظرية النسبية» relativism في الأخلاق التي تنظر للأمور بطريقة مزدوجة. نجاحاتها المحدودة لا تعني سوى أنها لا تصلح إلا في مواقع محدودة، أما بالنسبة للمستوى العالمي والعلاقات بين الدول فهي ما زالت قاصرة عن تحقيق نجاحات معتبرة. لهذا لم يُخبرنا الدكتور العيسى عن ماذا يتحدث حينما قال أن ديموقراطيتنا فاشلة؟ ما الذي يعنيه بالديموقراطية؟ وما هي المسطرة الصحيحة كي نقيس بها الديموقراطية، ولنعلم فعلاً أننا فشلنا أو نجحنا؟ أسئلة أجدها صعبة ولا يوجد لها جواب أصلاً!hasabba@
مشاركة :