الخيامية رسم بالقماش على القماش يأبى الاندثار في مصرتنفرد مصر بفن الخيامية، أو فن صناعة الأقمشة الملونة عن بقية دول العالم العربي، فظهرت الرسوم على الأقمشة منذ العصر الفرعوني، وازدهرت وتطورت في العصر الإسلامي، حين كانت تتم صناعة كسوة الكعبة الشريفة في مصر حتى منتصف الستينات من القرن الماضي ثم تطورت وتنوعت مع انتعاش السياحة، لكنها شهدت بعد ثورة يناير تراجعا ملحوظا جعل أصحاب هذه الحرفة يخشون اندثارها.العرب [نُشر في 2017/06/07، العدد: 10656، ص(20)]حرفة تؤرخ الحضارة المصرية بالرسم القاهرة - تعتبر الخيامية من المظاهر الرمضانية الأساسية في مصر، فما إن يحل شهر الصيام حتى تزدهر الحركة في شارع الخيامية استعدادا للطلب علي الأقمشة المزينة لاستخدامها في الخيم الرمضانية وفي سرادقات موائد الرحمن وفي عروض التنورة وفي واجهات المحلات والمطاعم، أما باقي أشهر السنة فتقتصر الخيامية على الاستخدام في سرادقات العزاء والأفراح والدعاية الانتخابية. ويحاول شيوخ هذه الحرفة التقليدية محاربة اندثار هذا الفن الجميل ببصماتهم الواضحة على اللوحات المعبرة عن مراحل مختلفة من تاريخ مصر، والمعلقة بمداخل محال وعلى جدران معارض داخل سوق الخيامية في القاهرة. والخيامية هي زخرفة الأقمشة الملونة يدويا عن طريق التطريز على أقمشة القطن السميكة باستخدام مجموعة من الألوان الزاهية والخيوط البارزة للوصول إلى لوحة فنية جميلة. وتعددت الروايات حول أصل الخيامية، إلا أن أغلب الروايات ترجعها إلى العصر الفرعوني حيث كانت تصنع من الجلود، ويرجع تطورها إلى العصر الإسلامي وكان أوج ازدهارها في العصر الفاطمي حيث تطورت وبدأت تصنع من القماش. ويقول أحد الحرفيين “صنعة الخيامية تحتاج إلى إبداع في تناسق الغرز مع بعضها البعض، وفي دقة اختيار الألوان المناسبة، وعدد القطع المطلوبة للعمل والسوق، وسابقا لا يُطلب منا سوى تصنيع القماش وخيام السرادقات، أما الآن فقد تطورت صناعة الخيامية والقطع المطلوب العمل عليها بنفس الطريقة، حيث نجد الآن القطع الصغيرة جدا أو مفارش السرير”. كساد المهنة المهنة التي تلقى كسادا غير مسبوق حاليا بسبب تراجع السياحة بمصر، يرجع تاريخ ازدهارها إلى العصر المملوكي الرسم والتطريز أقرب إلى من يعزف على آلة موسيقية، إذ يتعين عليه أن يمزج بين جميع الأشكال بلا نشاز (1250 - 1517) أن كانت مصر تصنع كسوة الكعبة المشرفة، لكن الحال تبدل حاليا حتى هجرها فنانوها بحثا عن لقمة العيش في مهن أخرى. وما إن تدلف من باب زويلة الذي يرجع بناؤه إلى سنة 1092 ميلادية، ويتكون من كتلة بنائية ضخمة عرضها نحو 25 مترا وارتفاعها 24 مترا، حتى تدخل إلى الشارع الذي أخذ اسمه من مهنة الخيامية. والدراسات التاريخية تقول إن الشارع كان يتكون من طابقين؛ الأرضي كان إسطبلا لخيول التجار المغاربة والشاميين، بينما العلوي استخدموه لمبيتهم، وكانوا يصنعون خيامهم في هذه المنطقة، وفيها طور المصريون صناعة الخيامية حتى برعوا فيها. النقوش المزخرفة وجاذبية الألوان تخطفان عيون الزائرين للشارع العتيق الذي لا يتعدى عرضه 3 أمتار، تتزاحم فيه ورش الخيامية، لكنها تشع نورا وجمالا وتتراقص فيه الألوان بجوار بعضها البعض. وعلى أريكة مكسوة بالسجاد اليدوي تتوسط أحد المحال الصغيرة بنهاية الشارع، اعتاد أشرف هاشم (60 عاما) على الجلوس وسط لوحاته يمرر عينيه عليها، ربما يجد خطأ في واحدة بعدما عجزت يداه عن الإمساك بالإبرة منذ ثلاث سنوات، وتحول إلى متابع للعمل فقط، وعلى يمينه ينطلق صوت المذياع الذي لا ينقطع طوال تواجده بالورشة. يسترجع الرجل تاريخه مع المهنة قائلا “الخيامية لا تقبل إلا المفتونين بها، لأنها مهنة قائمة على الذوق الرفيع والحس الفني، كما أن عوائدها ليست مجدية خصوصا في الفترات الأخيرة، لذا لن يتحملها إلا العاشقون لها”. وتبدأ مراحل صناعة اللوحات المرسومة على قماش الخيامية، كما يقول هاشم، باختيار الرسم المطلوب نقله على القماش، ثم يبدأ الفنان برسمه على الورق أولا. وهناك أشكال مختلفة ترسم على القماش فإلى جانب الأشكال الإسلامية هناك أشكال متنوعة، وهي تشبه في النهاية السلم الموسيقي، وهو ما يجعل الصانع أقرب إلى من يعزف على آلة موسيقية، إذ يتعين عليه أن يمزج بين جميع الأشكال بلا نشاز. وما إن ينتهي الفنان الذي يلقبه أرباب مهنة الخيامية بالصنايعي من الرسم على الأوراق حتى يبدأ في نقله إلى لوحة أصلية. أشرف الذي قضى عمره بين قطع القماش، يطلق على مهنته اسما مميزا فيقول إنها عملية “الرسم بالقماش على القماش”. وبعد أن ينتهي الصنايعي من إتمام مجسم للوحة على الورق، يقوم بثقوب بالإبرة على القماش المطلوب الرسم به، ثم يشرع في قصه إلى قطع صغيرة.مهنة الدقة والصبر تنتظر عودة السياح وبعدها يقوم الرسام بتحديد المناطق التي سيضع فيها القماش المقصوص على اللوحة الأصلية مستخدما قلمه الرصاص الذي لا يفارقه، ثم يجمع القطع الصغيرة المستخدمة في الرسم على لوحة كبيرة من القماش المصنوع من الكتان. ومهنة الخيامية من المهن التي تتطلب الدقة والصبر، فالقطعة الواحدة تستغرق ما بين عشرة أيام وثلاثة أشهر بحسب التصميم. أصغر اللوحات التي لا يتعدى عرضها 30 سنتيمترا وطولها 50، تستغرق تجهيزها يوما على الأقل بينما بعض اللوحات تستغرق وقتا أطول، حسب الرسم المنقوش عليها. وبلهجة واثقة يقول هاشم إن أكثر اللوحات تعقيدا هي لوحات الفن الإسلامي لكثرة الوحدات الزخرفية فيها، فبعضها يستغرق أكثر من شهر. وما إن بدأ الحديث عن الخيامية يأخذ منحى الجدية حتى استرجع هاشم ما وقع له قبل 30 عاما تقريبا، إذ يقول إنه أنجز لوحة منقوشة بالفن الإسلامي الدقيق المليء بالوحدات الزخرفية الصغيرة، استغرقت وقتها أربعة أشهر، وباعها آنذاك بألفي جنيه كانت تعادل أكثر من 20 ألف جنيه حاليا، (1200 دولار أميركي). لكن صناعة الخيامية حاليا لا تروق لهاشم ورفاقه، بسبب تراجع حجم المبيعات، واختفاء المشتري الذي يقدر الجهد المبذول في اللوحات. ويقول هاشم إن غالبية العاملين بالخيامية تركوها وانصرفوا لمهن أخرى تدر دخلا كثيرا، بعدما تعطلت مصالحهم بتوقف السياحة خصوصا الأوروبية. ويضيف أن الصناعة كانت قائمة قبل قيام الثورة المصرية في 25 يناير 2011 على السياحة واندثرت نهائيا بعدها، وفي نهايات العام الماضي شهدت المنطقة قدوم الأجانب مرة أخرى إلا أنهم اختفوا فجأة. وعن الرواد المصريين الذين يملؤون الشارع، يقول هاشم إن غالبيتهم متفرجون، وقلما يأتي مشتر مصري يستطيع أن يدفع ثمن هذه المغزولات التي تستخدم كلوحات تعلق في حجرات الجلوس ومداخل البيوت وتزين الجلسات العربية والمطاعم الفاخرة ذات الطراز العربي. زينة رمضان في الورشة المجاورة لأشرف هاشم، كان وائل نانو صاحب الورشة (40 عاما) يحاول إقناع إحدى السيدات بشراء قطعة من القماش مغزولة بالخيوط الزخرفية الإسلامية بـ300 جنيه (نحو 15 دولارا)، إلا أنها لم تعجبها الألوان ليبدأ حديث عن حركة البيع من هنا. يقول نانو وهو اسم اشتهر به في شارع الخيامية، إن حركة البيع متوقفة تماما وهو ما اضطر العاملين في حياكة مفروشات الخيامية لإحضار أقمشة يمكن استخدامها في زينة شهر رمضان كالفوانيس والأطباق الصغيرة والأباجورات. ويشير إلى أن الأقمشة المتعلقة برمضان ليست خيامية بالمعنى الحرفي، بل هي مجرد أقمشة عادية مطبوعة عليها رسومات الخيامية وليست مغزولة باليد، لكنهم يحضرونها لكثرة الطلب عليها في رمضان.فن فتن المصريين منذ العصر الفرعوني ويؤكد نانو أن ظهور ماكينات الطباعة في سبعينات القرن الماضي ضربت صناعة الخيامية في مقتل فكان وقتها العاملون في هذه المهنة يقتاتون من غزل خيام السرادقات والأفراح، ثم تحول الأمر إلى الميكنة ما أفقد المهنة جزءا أصيلا منها. ويوضح أن وراثة مهنة الخيامية كانت عبر تعليم قدامى الصناع للمتدربين الجدد، كيفية الصناعة سواء بالرسم على القماش أوحياكة المنتج، مضيفا “ما إن يتعلم كل متدرب كيف يشكل قطع القماش الصغيرة ويقصها حتى يبدأ في تنفيذ لوحات الخيامية بمفرده وينفذ ما يتماشي مع حسه الفني”. وائل نانو الذي يعمل في صناعة الخيامية منذ أن كان طفلا في السابعة من عمره، يقول إن تفضيلات راغبي اقتناء لوحات الخيامية بدأت تميل إلى الفن الإسلامي مؤخرا، بعدما كانوا يفضلون الفرعوني. ويضيف “إن أقمشة الخيامية يشتريها أصحاب الورش من مصانع الغزل والنسيج بمنطقة المحلة الكبرى وسط الدلتا (شمال) وتتكون من طبقتين، واحدة ناعمة مصنوعة من القطن وأخرى خشنة مكونة من الكتان”. ويميل في لوحاته لمحاكاة الطبيعة ورسم أسراب الطيور والأشجار، حيث يرى أنها الأكثر جذبا للناس، ويحضر بعض الرسومات من على شبكة الإنترنت ثم يحولها للوحات مرسومة على القماش. ووسط الشارع وقفت نورة حمدي (35 عاما ربة منزل) تقلب زينة رمضان المعلقة على أبواب محال الخيامية وورشها. تقول إنها تأتي كل عام إلى شارع الخيامية لتجهز منزلها لاستقبال شهر رمضان بالزينة والمفروشات والفوانيس الخيامية. وتضيف “إن لوحات الخيامية المرسومة باليد فائقة الجمال، لكنها مرتفعة جدا في الأسعار، ولا يستطيع كل المصريين اقتناءها”، لذا هي تشتري أقمشة الخيامية المطبوعة بدلا منها. ويشدد الحاج حنفي قائلا “لا يمكن لفن الخيامية أن يندثر طالما هناك من يعشق الفن الجميل وطالما هناك أجيال جديدة تحرص على أن تتعلم هذا الفن الإبداعي. وطالما هناك رواج سياحي وعشق لإبداعاتنا، وطالما هناك استعمال للسرادقات حيث يكثر استخدامها في المناسبات الدينية سواء في المساجد أو المؤتمرات الدينية، كما في الأفراح والمآتم”. ويضيف “حرفة من التراث يصعب اندثارها، قد تشهد إهمالا على المستوى المحلي، لكنها في أوروبا والدول العربية من الحرف التراثية المتميزة، إذ يقام معرض سنوي في لندن لمشغولات الخيامية إلى جانب حرف يدوية متعددة ذات تراث عربي يشارك فيه عدد من الحرفيين المصريين”. ويطالب الغيورون على ضرورة إدراج فن الخيامية ضمن المنتجات المحمية من قبل الدولة، للحفاظ عليها من الانقراض.
مشاركة :