ليست الكتابة عند الشاعرة والروائية رندلى منصور فعل حضور بالكلمة والفكرة يحركها يراع ينهل من معين المعاناة فحسب، بل هي فلسفة عيش وطريقة تفكير تنمّ عن نضج فكري ورؤية ثاقبة وواضحة لمعاني الحرية والهوية والكيان وعلاقة الإنسان بما يحيط به، لذا هي في تأمل مستمرّ سواء في رواياتها أو شعرها، تختصر المسافات بين المعرفة والوجود وبين الفكر والحرية، لكأنها تبتدع لنفسها عالماً لا أسر فيه ولا قضبان ولا خوف ولا استسلام، بل إبداع صوفي فلسفي فيه بعض ذاتها وبعض تجاربها وبعض أحلامها. بعد صدور ديوانها «دوران»، بدأت منصور التحضير لديوان جديد وكتابة روايتين، إحداهما اجتماعية بحتة، تتناول مواضيع شائكة والأخرى وجدانية فلسفية. ديوانك الصادر حديثاً «دوران»، هل هو دوران حول الذات أو الآخر أم هروب من الواقع؟ بل هو دوران الذات نحو الآخر إلى ما بعد الواقع. القصائد في الديوان التي تربو على 89 قصيدة، تبدو كأنها تأملات صوفية، تذوب فيها الذات في الحب وتغوص عميقاً في الحياة والموت والوطن... فهل هذا الديوان نتيجة خبرة وتجارب جعلت القصائد تسمو إلى الأعلى؟ الكاتب مجهر الواقع، يستعير الصورة ليعيد بالحرف صورة تحوي بالإضافة إلى الحقيقة، تجربة ومشاعر. إلى أي مدى تحمل القصائد نظرتك في الحب والحياة، ولماذا اعتماد أسلوب الأنا والنحن وضمير المخاطب؟ لأن لعبة الحياة والحبّ هي مزيج صارخ وانصهار للأنا بالأنت حتى إذا مرّت بمحاذاة الحياة صارت نحن، وإن هي انغمست بالحبّ باتت ضميراً متكلّماً اسمه «أنتنا». ما الذي دفعك إلى نشر الديوان في هذا الوقت بالذات؟ بصراحة، لم يكن مخاض هذا الديوان سهلًا، فقد رافقته انتكاسات كثيرة من أولّ اختيار العنوان وصولًا إلى موضوع الطباعة والنشر، ولم ينته ذلك هنا، بل ما زال ذلك مستمرًا في موضوع التوزيع والتسويق، وهو الدوران المستمر في حلقة النشر. أما عن نشره في هذا الوقت بالذات، رغم عدم اختياري، إلا أنه جاء بالفائدة عليّ إعلاميًا وعلى الديوان دورانًا تلو دوران أصبح أكثر انتشارًا وحظوظًا. إلى أي مدى استطعت في الديوان إلغاء المسافات مع كل ما يتعلق بالإنسان والحياة بصلة؟ تقرب المسافات أحيانًا حدّ الأفق، وتبعد أحيانًا حدّ القلب، لكن مهما كانت المسافة وحده القارئ الحكم، لأنّه غاية النشر. أما عن غاية الحياة، فهي التي تصقلنا حينًا بثقلها، فنقترب أكثر من الكتابة، وكلّما صقلت أكثر، أبدعت أكثر. بحث عن هوية هل القصيدة بالنسبة إليك صناعة أم نابعة من عفوية المشاعر وصدق التجارب؟ شعر وشعور ومشاعر فيها قاسم مشترك، والشاعر هو الاشتقاق من الأصل، هو من ينسج مشاعره على نول الشعور ليصدح شعرًا يدوزن على كلّ البحور. أين هي شخصية رندلى المرأة في كتاباتها سواء في الشعر أو الرواية؟ رندلى تظهر في كلّ حرف وتبرز مع كلّ صورة، هي المرأة التي جاءت في زمن لا يشبهها، زمن تحاول فيه إيجاد هويّة للمرأة من خلال عملها لا مظهرها، زمن لا تؤمن فيه المرأة بحريّتها إلا من خلال الظاهر، ولا يعرف قراءتها الرجل إلا من خلال حواسّه. رندلى هي حقيقة ترينها بين السطور، تسمعينها ما وراء الحروف وترينها خارج حدود الزمن. هذا ما أتمنّى أن يصل من خلال ما أقدّمه لكلّ من يقرأني، ولا يحتفظ بكتبي عددًا في مكتبة باردة بلا روح. صدر ديوانك الأول «بلا عنوان» في عام 2013، هل ثمة رابط بينه وبين ديوانك الجديد؟ علاقة ديوان «بلا عنوان» بديوان «دوران» هي علاقة الروح بالجسد. كان «بلا عنوان» تحضيرًا لـ «دوران» على المستويات كافة، بمثابة بطاقة تعريف شعريّة. كما سيكون «دوران» مقدّمة ما سيليه. أعدكم بما هو أكثر دهشة وأجمل تيهًا... هل قصدت من العنوان أنك تتوجهين إلى الإنسان عموماً بغض النظر عن جنسه، رجل أو امرأة، أو دينه أو حالته الاجتماعية؟ المقصود عدم التصنيف. في مجتمعنا علّة كبرى قتلت في خيالنا الدهشة، وقتلت في ضمائرنا الحقيقة، لم نعد قادرين على رؤية الأشياء والاستمتاع بها لذاتها، نحن نصنّفها أوّلًا وإن تلاءمت مع اتجاهاتنا وانتمائنا نقبلها، وإن لم تفعل نشوّهها ونخنقها. كيف للفنّ أن يصنّف وللإبداع أن يعنون؟! هل ثمة شمولية في التطرق إلى الحالات في ديوانيك أم لكل قصيدة خصوصية وحالة معينة؟ روح واحدة تجمع التمرّد والغضب والشوق والحبّ، وفي كلّ حالة جانب من جوانب الروح التي باتت تتصدّع مع كل ألم وتهيم في لجج العشق. هوية الحرية روايتك الأولى «حرية وراء القضبان» الصادرة في عام 2015، بحث عن هوية مفقودة. هل الحرية مرتبطة بالأرض بمعنى إذا ضاعت الأخيرة ضاعت الهوية؟ هي البحث عن هوية الحرّية، عن ماهيّتها، هل هي مرتبطة بالزمان والمكان؟! أم بالروح؟! أم الفكر؟! هي رسالة للإنسان عموماً وللمرأة خصوصاً. لنبحث في داخلنا عن المعنى الحقيقي للأشياء. لنصبح أكثر إلفة مع الحرية. هذا كله من خلال قالب روائي يتناول الحرب والأسر والحبّ. إلى أي مدى تعكس الرواية ما يجري من حولنا من حروب وأزمات؟ تلامس بعض حقيقته، لكن تتناول الحروب والأزمات الحقيقية والتي نخاف مواجهتها بصدق، حربنا مع أنفسنا، مع أفكارنا، وعاداتنا، وتقاليدنا، وموروثاتنا، وذلك كله في مجتمع ضعيف وهش يريد مقاومة عقده بالحريّة الزائفة والمصطنعة. برأيك إلى متى ستبقى الحرية وراء القضبان، وهل بإمكان الكاتب أو المبدع إحداث تغيير ما من خلال أدبه؟ إلى أن نقرّ بأخطائنا ونصوّب البوصلة إلى حيث يجب أن ننظر. أما عن دور الكاتب في إحداث التغيير، فمثال الثورة الفرنسية ما زال يصدح. صحيح أن التحضير دام مئة عام، لكنّه غيّر فرنسا جذريًا، وبالتالي أوروبا كلها. لكنّ المشكلة في مجتمعنا اليوم، أننا شعوب لا تقرأ وإن قرأت لا تتعلّم. لم تعد تتوافر منظومة ثقافية أو قيمية نبني عليها، لذلك المهمة صعبة للغاية. علينا العودة إلى الأسس، والركائز، كي نستطيع تدعيم مجتمعنا وإلا الجرف سيسحقنا ولن يذكر التاريخ منّا إلّا الويلات. لا استسلام رغم أن رواية «حرية وراء القضبان» تعكس الواقع الأليم فإنها تفتح نافذة للفرح، عاكسة صورة عن ذات الكاتبة الرافضة للخضوع والاستسلام والتواقة إلى الحياة. حول هذه النقطة بالذات توضح رندلى منصور: «لولا فسحة الأمل، حياتنا بالكامل مبنيّة على الأمل، وإلّا لما احتملنا الحروب والموت والغدر». تضيف: «شخصيّة يارا في الرواية التي انتصرت على نفسها بعد محاسبتها وقرارها بإعادة بناء نفسها وصياغة مولودها بأبجدية مختلفة، وهو الحل الذي علينا تطبيقه. على هذا الأمل نحيا»...
مشاركة :