يعد الموسيقار القدير غنام الديكان أحد أعلام الأغنية الكويتية الحديثة، وعاشقاً للتراث الموسيقي الكويتي، ومبدعاً في أعماله، وتاريخه الفني خير شاهد على ذلك، فأعماله التي ارتبطت بأغلبية نجوم الأغنية الكويتية لا تزال خالدة تتوارثها الأجيال. أدى الديكان دوراً مهماً في الحركة الموسيقية والغنائية الكويتية والخليجية، وخصوصاً في الأغنية الوطنية النابضة بحسّ وطني مستلهم من روح الكويت وتاريخها، وهو يعبر من خلال موسيقاه عن أفراحها وآمالها وآلامها، لذا استطاع أن يسمو بالأغنية الكويتية الوطنية، ويجدد ألحانه، التي شربت أريج الكويت وعطر ترابها الخالد، حتى أصبح أحد أبرز فرسان الأغنية الوطنية. وفي الحلقة الرابعة، يروي لنا الديكان "بوخالد" عن "السنكني"، وهو من الفنون الشعبية الصعبة، له قواعده وأصوله، ولا يستطيع تقديمه إلا المتخصصون في هذا النوع، ومن أبرز نهامي السنكني راشد الجيماز وسعد العبكل وسعود صرام و"بوزايد" العميري. وشرح الديكان أهمية إيقاع "الدزة"، وإعادة صياغته لأغنية "عليك سعيد" كلمات مبارك الحديبي وغناء حسين جاسم، التي كانت المحاولة الأولى لنشر إيقاع وغناء "الدزة" كقالب موسيقي. وانتقل إلى مرحلة تقديم أغنيات الأطفال من خلال المقدمة الغنائية "عادت عليكم يا هلا"، التي أصبحت أيقونة شهر رمضان من كل عام، واسكتشات غنائية تراثية مثل "السبت سبمبوت" و"يا من عين الضالة" و"شلون تمشي الحمسه" والأخيرة قدمها بصوته، وكلها من كلمات الشاعر المبدع بدر بورسلي، كان يقود الفرقة الموسيقية حينئذ أشهر الموزعين الموسيقيين المصريين حسين أمين... حول تلك التفاصيل كان لنا معه هذا الحوار: ● ما مدى صعوبة فن "السنكني"؟ - عندما سألت النهام والفنان الكبير راشد الجيماز عن "السنكني"، قال لي يا ابني أنا "ما حيده" بمفردي، فاكتشفت أنه يعتمد على المجموعة، وأثناء توثيقي الخاص للفرق الشعبية، وجدته فناً غير عادي، له قواعده وأصوله، فثمة مجموعة مخصصة "للطارات"، وأخرى فقط للتصفيق، وغيرها للطبل، وكل واحد ينتظر دوره فلا تسند العملية لأي طبّال، واثنان مخصصان للطاسة، فسألت من يجيدهما، قالوا لي لا أحد يستطيع "شيل الطاسة" غير حمد بن حسين وعيسى بن جاسم. وهذه الفنون لها علاقة بالفنان نفسه، فعلى سبيل المثال "الطارة" عوف المهنا، ويوسف الجحيل، و"الطبل" أبو هويدي عم نجم العميري، وفيروز الياقوت، لذا هناك ناس محددة لتقديم فن السنكني، الفريد في نوعه، والذي يحتاج أيضاً إلى كورال ونهامين. اكتشفت أن "الطاسة" هي التي تنظم فن السنكني، وأتذكر هنا أننا ذهبنا مع جمعية الفنانين، التي نظمت حفلاً في جزيرة فيلكا، وكان معنا بعض البحارة أردوا تقديم السنكني، فذهبت إليهم، ولم يستطيعوا "شيله"، وتبين لي أن ثمة أمراً خطير جداً، إذا لم يتمكنوا من مدخل هذا الفن الصعب فلن يستمروا في تأديته، والمدخل الصحيح لا يعرفه إلا القلة من الفنانين، عمله شيء صعب ومهول، فالطبّال يعد 64، حتى يعيد ضربة "الدُم" في مكانها الصحيح، وفي المرة تكون للصفقة خطوات معينة. وكان الأستاذ مرزوق المرزوق رحمه الله، يرافقني إلى فرقة العميري، يسمع، ويراقب، ويحلل، وهو مهندس وملحن قدير ومن الدارسين للموسيقى. ● من يجيده من النهامين؟ - ليس بمقدور أي شخص عادي أداء هذا الفن، ففرقة العميري كان لديها أكثر من عشرة نهامين في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، ومن أبرز نهامي السنكني بالذات، راشد الجيماز، سعد العبكل "بو مساعد"، "بوزايد" العميري، وسعود صرام. ● ماذا عن إيقاع "الدزة" ؟ - الدزة، يطلق عليها أحياناً "دزة طارة"، وفي أحيان أخرى "دزة العروس أو المعرس"، ويتميز هذا النوع من الغناء، بإيقاع جميل له أهمية خاصة، نظراً إلى أنه أصبح يصاحب أكثر الأغنيات، التي تصاغ في إطار الميزان (6 / 8)، كأغنيات الأطفال والشيلات البحرية. وقد أوجد الفنان الشعبي أغنية "عليك سعيد عليك مبارك" ضمن أغنيات الزفاف، وهي الأغنية الوحيدة على هذا الإيقاع، تؤديها إحدى المغنيات فتردد مجموعة نساء شطرة تلو الأخرى أثناء دخول المعرس على العروس. فأعدت صياغة هذه الأغنية في اللحن، وكذلك مبارك الحديبي الذي صاغها بكلمات جديدة مع الاحتفاظ بالجملة الأولى "عليك سعيد ومبارك/ لا إله إلا الله"، وغناها المطرب الكبير حسين جاسم. وتعد هذه الأغنية هي المحاولة الأولى لنشر إيقاع وغناء "الدزة" كقالب موسيقي عام 1969 تقريباً، حيث لحن مرزوق المرزوق "محلانا يا محلانا يوم الزين وافانا" من كلمات خالد العياف وغناء خليفة بدر، حينها سألته ما إيقاعها، قال لي إنه إيقاع "الدزة" نفسه الذي استخدمته أنت، فلم يسبقك أحد فيه. ● هل استخدمت الإيقاع نفسه في أعمال أخرى؟ - قدمته في أغنيات أخرى باستخدام الآلات لفرقة التلفزيون، وكذلك في أعمالي التي قدمتها في احتفالات وزارة التربية بمناسبة العيد الوطني، الذي يقام كل عام. * كيف بدأت الاشتغال على أغنيات الأطفال؟ - بدأت منذ أن استضافني الشاعر والمخرج التلفزيوني بدر بورسلي في برنامج "الليلة عندنا سمرة"، كي أقوم بإلقاء أشعاره، وكان للبرنامج صدى طيباً في ذلك الوقت، ومن بعده عملنا على أغنيات الأطفال، فبدأنا بمقدمة لبرامج شهر رمضان، "عادت عليكم يا هلا"، من كلماته وألحاني، تم تسجيلها مع قائد الفرقة الموسيقية حسين أمين، في استوديو التلفزيون وهو ليس مخصصاً للموسيقى، واشتهرت هذه الأغنية بجوها الجميل كأيقونة شهر رمضان حتى يومنا الحالي، ثم شرعنا في أعمال أخرى للأطفال. ● وما هو عملك التالي؟ - جاءني تكليف من محمد السنعوسي، من خلال بدر بورسلي، لعمل أغنيات للأطفال، فقدمنا اسكتش غنائي بعنوان "السبت سبمبوت" من إخراج بدر المضف وأداء الفنانة القديرة سعاد عبدالله، و"يا من عين الضالة جزاه الله خير" التي كانت بصوت بدر بورسلي. * كيف وردت فكرة أن يؤديها بورسلي؟ - أفكار تلك الأعمال جاءت واحدة تلو الأخرى، حيث صاغ بورسلي كلماتها، وهو صاحب أفكار جميلة تنبض بعبق الماضي الأصيل، حيث يصور لك الشارع و"السكيك" في الكويت قديماً، ومثال "يا من عين الضالة"، سبق لي أن رأيته، فهو لا يكشف ما هو مفقود أو ضائع من الناس بالضبط، فربما يكون مبلغاً من المال أو شيئاً مهماً أو من الماعز، وصاحب الحاجة يعطي ما يطلق عليه "المطرّب" إكرامية، لقيامه بهذا الأمر وهو التجول ما بين الفرجان منادياً بالمفقودات. وقد اسندت إليه غناءها لأنه يجيدها بحرفية من خلال صوته، كما لديه المقدرة على أدائها بشكل رائع، فهو فنان حقيقي يمتلك العديد من المواهب، من بينها صوته المعبر. وتم تسجيلها على مدى يومين، وفي اليوم الثالث لم يأت بورسلي إلى الاستوديو. * ماذا حدث؟ - كنت بانتظاره مع الفرقة الموسيقية، ولم يحضر بورسلي، فاتصلت به مستفسراً عن غيابه، قال لي: "إنني ذاهب إلى المطار، لأنني سأسافر"، فقلت له بقيت لنا أغنية واحدة، فرد علي "تصرف في الموضوع"، فلم يكن أمامي غير أمر وحيد لا يوجد غيره، كي أخرج من هذا المأزق، أن أغنيها بصوتي، رغم إنني لم يسبق لي الغناء في الاستوديو مع الفرقة الموسيقية، وهي "شلون تمشي الحمسه... تمشي جذيه"، ولم يعرف إنني من أداها، وقد جسدها تمثيلاً الفنان القدير عبدالرحمن الصالح. ● هل لفتت انتباه العاملين في مراقبة الموسيقى؟ - نعم، أثناء تسجيلي بصوتي في الاستوديو، دخل علينا مراقب الموسيقى وقتذاك الملحن الراحل أحمد باقر، وغيره من الزملاء فأصبحت الأجواء أكثر من رائعة، وكان قاد الفرقة الموسيقية المايسترو حسين أمين، وهو موزع موسيقي شهير في مصر، وأكبر موزع في الكويت، لا يوجد غيره، لأنه الوحيد من يستطيع التحكم في السرعات، والغناء و"ريستاتيف" أي الالقاء المنغم الحر، وايضاً يعرف كيفية التعامل مع الممثلين وكذلك المبتدئين، فظهر العمل بصورة جميلة. ● من تأثر بهذا الأعمال؟ - حازت هذه الأعمال التراثية وأغنيات الأطفال على اعجاب الكثيرين في ذلك الوقت، وأيضاً تأثر فيها أطفال الروضة، حيث قاموا بأداء "السبت سبمبوت" و"شلون تمشي الحمسة"، ضمن أنشطتهم في الروضة. جابر العلي استقطب الفنانين لإذاعة الكويت أشار الديكان إلى الدور الكبير للشيخ جابر العلي رحمه الله في دعم الفن والفنانين عندما كان وزيراً للإرشاد والأنباء (الإعلام حالياً)، حينما استقطب الكثير من المطربين والمؤلفين والشعراء وعازفي الإيقاع وغيرهم كموظفين في إذاعة الكويت، فالمهم أن يقدموا أنشطة فهم شبه متفرغين لعملهم الفني فقط، وكل ما يريدونه يتوفر لهم، لذا كان الحراك الفني نشطاً للغاية، وكانت الإذاعة على الرغم من كونها في مرحلة البدايات تنافس الكثير من إذاعات الدول العربية. وأراد أن الديكان التخلص من عائق دوامه في الميناء، كي يتفرغ للفن، فحاول الانتقال إلى وزارة التربية، التي رفضت طلبه، وكذلك ناصر فردان الذي رفض نقله من الميناء، مضيفاً حول ناصر فردان، أن والده هو حجي فردان من أفضل من صنع الأبوام، وجده أحمد فردان الأشرم الذي صنع لبريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية من 30 إلى 40 سفينة، فمنحته وسام الملك جورج السادس. وتم حسم موضوع نقله إلى التربية بتدخل الفنان القدير عبدالعزيز المفرج، حيث صدر كتاباً من وزير التربية خالد المسعود إلى وزير المالية والصناعة سلمان الخالد، ومن ثم تم نقله. خالد النفيسي أول من دعمه في مقابلاته الإذاعية لفت الموسيقار غنام الديكان إلى معاناته الكبيرة بالنسبة إلى تسجيل أعماله، حينما كان يعمل كاتباً في الميناء، والمسؤولون لا يعترفون بالفن الموسيقى ولا يمنحونه إذناً، خصوصاً إذا كان هناك حجز للاستوديو من مراقبة الموسيقى في تاريخ وتوقيت معينين، وأحياناً يفاجأ صاحب الحجز بمنح أحد الفنانين الكبار حجزه، ومن ثم يتأجل عملك إلى الأسبوع التالي. فثمة إجراء في الميناء لمن يخرج ساعة دوامه، يعتبر غائباً ثلاثة أيام، أما الديكان فلم يكترث بذلك، عندما يحين موعد حجزه للاستوديو يترك دوامه من أجل تسجيل أعماله، حيث يسمع الفرقة الموسيقية لحنه على آلة العود، حتى تعزفه الفرقة. وأشار الديكان إلى زميله في الميناء الفنان المثقف الراحل أحمد الراشد الشهير بشخصية "بندر"، الذي كان قارئاً جيداً لكتب كبار الأدباء، من بينهم طه حسين وعباس محمود العقاد، فتأثر بنصيحته بالقراءة ومعرفة ما هو الأدب، ومنها بدأ يتطلع على الأعمال الأدبية. وبيّن أن الراشد استطاع بأسلوبه ودمه الخفيف التعامل مع المسؤولين في الميناء، كما كان عضواً في فرقة المسرح العربي، فذهب معه إلى مقر المسرح، وهناك تعرف إلى مجموعة من الفنانين بينهم النجم الراحل خالد النفيسي، الذي استمع إلى أعمال الديكان واعجب فيها، فقدم له دعما كبيرا وهو من أوائل الناس الذين قاموا بالتنويه عنه في مقابلاته الإذاعية ومشيداً بالأجواء الكويتية التي كان يقدمها في أعماله الغنائية.
مشاركة :