< من غير الطبيعي أن تكابر حكومة قطر، وتقول إن اقتصادها لن يتأثر نتيجة قطع العلاقات الديبلوماسية وإغلاق الأجواء مع بعض جيرانها في الخليج وبعض البلدان العربية، فهي ستتأثر وبشكل لافت، بدءاً من ارتفاع كلفة التشغيل لمؤسساتها الخدمية وتراجع التدفقات المالية، وبالتالي ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، خصوصاً الغذائية والملابس، لاسيما أنها بلد غير منتج ولا صناعي، وتعتمد أسواقه على المنتجات المستوردة، وبالفعل شاهدنا البورصة القطرية كيف تفاعلت سلباً مع قرار المقاطعة بعد ساعات من اتخاذ القرار. ربما يقول البعض إنه شيء طبيعي هذا التراجع نتيجة الصدمة التي تلقاها، نعم قد يكون ذلك يوماً أو يومين، أما أن تصيبه رعشة طوال الأيام الماضية ويصبح إحدى أكثر الأسواق المالية تذبذباً في العالم، فهذا مؤشر إلى أن الهزة العنيفة لن تكون بعيدة إذا لم تدرك حكومة قطر مخاطر عدم عودتها إلى رشدها من تمويل الإرهاب، وهو مطلب عالمي، وتتوقف عن مضايقة جيرانها من دول الخليج ودول عربية أخرى من أجل زعزعة أمنها واستقرارها. عادة معظم البلدان ذات المساحة الصغيرة التي ليس لديها اقتصاد منتج وتحيطها بلدان كبيرة أو جزر صغيرة في المحيطات، ما تكون دولاً مسالمة وتنشغل في زراعة الحقول وتربية المواشي وتكثف عملها في تطوير موانئها أو الاهتمام بالسياحة مثلما فعلت مالطا والمالديف وبلدان صغيرة أخرى، إذ حققت قفزة اقتصادية على مستوى العالم مثل سنغافورة التي بنت نهضتها الاقتصادية على رغم أوضاعها السياسية، وخلال أعوام قليلة استطاعت تشييد 52 مصنعاً وخلق فرص عمل لأكثر من 40 ألف شخص. كان بإمكان حكومة قطر أن تتفرغ لبناء دولتها وتحويلها إلى بلد اقتصادي وصناعي، وليس فقط يعتمد على النفط والغاز كمصدر وحيد له، كان بالإمكان أن يكون لاقتصادها أنموذج في منطقة الخليج في تطوير الإنسان القطري وتأهيله لسوق العمل مع تنوع مصادر الدخل، إلا أن الحكومة القطرية منذ انقلاب الشيخ حمد بن خليفة على والده وانطلاق ثروة الغاز في الدولة انشغلت بزرع الفتنة والقلق لجيرانها، فلا هي بنت قاعدة اقتصادية لها، ولم تتمكن من تأهيل مواطنيها، إذ كان جل وقتها وهمها الأكبر كيف تقدم الدعم للمتطرفين وإيواء أفراد ومؤسسات إرهابية. بالتأكيد الاقتصاد القطري سيتأثر على المدى القصير، وستشهد أسواق المال والبورصة والأسهم تراجعاً بشكل ملحوظ، وسينعكس على المتعاملين الذين سيفضلون الخروج منها، والبحث عن مناطق آمنة ومستقرة، خصوصاً أن المسألة تتعلق بدعم الإرهاب وتمويله، وخطوة المقاطعة وإيواء المتطرفين المتشددين أيدتها بلدان عظمى، وهو ما يعني مستقبلاً أن معظم الشركات التي لا تزال موجودة قد تخرج، خشية أن توضع في قائمة الشركات الممنوعة وشبهة تمويل الإرهاب، فالسوق تراجعت بنسبة 7 في المئة وهي أكبر خسائر يتم تسجيلها منذ الأزمة المالية العالمية في 2009. من أكبر القطاعات التي سينكشف انهيارها خلال الأيام المقبلة، أو خلال فترة الصيف الذي يعد فترة ذهبية لترويج برامج سياحية ومهرجانات وفعاليات وحفلات غنائية هو قطاع الطيران، إذ سيفقد الطيران القطري حصة مهمة وسيخسر معه قطاع الفنادق الذي كان يستفيد من السياح الخليجيين الذين يقدر عددهم بـ49 في المئة من إجمالي السياح القادمين إلى قطر، أما النسبة المتبقية فهي من جنسيات أخرى وستشهد انخفاضاً في أعدادها، كما شهد قطاع السياحة في الأوقات الماضية تراجعاً في اشغاله بنسبة 30 في المئة، ما دفع المسؤولين إلى خفض أسعار الشقق، وبعد المقاطعة بالتأكيد ستتراجع بشكل لافت قد يؤدي إلى إغلاق بعض المنشآت. ولا ينتظر القطريون أن الإيرانيين أو الأتراك سيأتون إليهم للسياحة، فلديهم من المواقع والأماكن السياحية ما لا يوجد لدى قطر أو الذهاب إلى بلدان أخرى، فإيران وجهتها السياحية والدينية العراق، أما تركيا فأوروبا أقرب لها، وإذا جاءت هذه البلدان فهي ستأتي لاقتسام الكعكة في ما بينها، والسياح الأوروبيون الذين يشكلون نسبة ضعيفة لن يجدوا في قطر أماكن سياحية وأثرية وتاريخية تغريهم ليتحملوا مشقة السفر، لبلد يدعم المتطرفين والجماعات الإرهابية. إغلاق الأجواء الجوية سيرفع من كلفة التشغيل لحركة الطيران، لأنها ستسلك أجواءً بعيدة وربما تكون ثلاثة أضعاف المسافة، نظراً لعدم إمكان الطيران على أجواء البلدان التي وضعتها في قائمة المقاطعة وهي السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وبالتالي فإن أي رحلة إلى أفريقيا مثلاً سيتطلب تغيير مسارها، وهذا سيؤدي إلى استهلاك أعلى للوقود ومسافات أطول، وسيؤدي إلى فقدان ركاب على متن طائراتها، واستخدام المجال الجوي الإيراني، سيكلف الطيران القطري كثيراً، فنحو 11 مليون دولار ستذهب إلى جيب إيران، والحال نفسها بالنسبة لموانئها المائية التي سيطولها الركود، فالناقلات البحرية ستنخفض أنشطتها، خصوصاً أن 80 في المئة من وارداتها من السلع الاستهلاكية والسلع الغذائية كانت تأتي من السعودية والإمارات، وبعد الحظر الاقتصادي، احتفلت الأسواق القطرية بوصول أغذية من تركيا، هذا الاحتفال سيكون موقتاً، مع طول مدة الحظر لن يتماسك، على سبيل المثال علبة الحليب التركي تباع بأسعار مضاعفة، حتى لو أننا افترضنا أن المواطن القطري من أعلى الأفراد دخلاً على مستوى العالم وان حكومته ستقدم دعماً لهذه المواد الاستهلاكية لتكون الأسعار في متناول المواطنين، إلا أنها لن تستمر طويلاً، فهذا سيؤثر في موازنتها، خصوصاً أنها مرتبطة بأسواق النفط والغاز وموازنتها تواجه عجزاً، والذي ارتفع من 13 بليون دولار في 2016 إلى 28 بليون دولار في موازنة 2017، فالمواطن القطري لن يستطيع مواكبة الأسعار المرتفعة لشراء حاجاته الضرورية من مواد غذاء واستهلاكية، كانت أقل بكثير من سعرها الحالي. تعنت الحكومة القطرية وإصرارها على دعم وتمويل الإرهاب سيضربان بقوة فرصة إقامة نهائيات كأس العالم التي ستستضيفها الدوحة في 2022 ورصدت لها 100 بليون دولار كلفة إنشاء 12 ملعباً وسكة قطار ومشاريع بنى تحتية وفنادق، إلا أنها تراجعت وخفضت بنسبة 40 إلى 50 في المئة من الموازنة المخصصة، واكتفت ببناء ثمانية ملاعب، ومع قرار المقاطعة قد يقرر الفيفا نقلها إلى بلد آخر، وهذه ستكون ضربة موجعة وقاسية ليس للرياضة فقط وإنما لكل قطاع الخدمات، مخطط لها أن تجني من 70 إلى 80 بليون دولار من إقامة كأس العالم في أراضيها. من غير المعقول أن يُصر بلد صغير ليس له دخل آخر غير النفط والغاز وأسعاره غير مستقرة في الأسواق العالمية مع حرب شديدة في المعروض وليست له موارد أخرى وليس بلداً منتجاً أو صناعياً ولا حتى مواطنوه يعملون في الزراعة أو الحرف اليدوية، على هدم اقتصاده ومكتسباته التنموية، وبدلاً من أن يواكب بلداناً أخرى من التقدم الصناعي ويحافظ على مكانته كبلد صغير ويكون ضمن منظومة دول مجلس التعاون آمناً ومستقراً، يسعى إلى استخدام مكره وخداعه ويخسر كل هذه البليونات ويتمسك بدعم وتمويل الإرهاب وأن يكون ملاذاً للجماعات المتطرفة، ويصرف الأموال الطائلة هنا وهناك لأجل تنفيذ أعمال ومخططات وقتل، إلا إذا كانت الحكومة القطرية تتحرك من غير وعي ولا إدراك ومن دون إحساس بالمسؤولية. مثل هذه التصرفات ستؤثر بالدرجة الأولى في رؤيتها 2030 التي وضعتها حكومة قطر، وهو تحويلها إلى دولة متقدمة قادرة على تحقيق التنمية المستدامة وتأمين العيش الكريم لشعبها جيلاً بعد جيل، فكيف ستتحقق رؤيتها في ظل الضبابية في تعاملاتها مع جيرانها؟ فغياب المناخ السياسي والتنظيمي سينعكس سلباً على قطاع الأعمال، كما أن اتساع فجوة خلافاتها مع البلدان الأخرى سيؤدي إلى غياب التنسيق مع دول التعاون والمنظمات الاقتصادية لإقامة روابط تجارية واستثمارية ومالية. القرار الآن في يد الحكومة القطرية، إما أن تشتري الحكمة بكلفة أقل، أو أنها ستخسر البليونات بتعنتها وإصرارها، ونحن على يقين بأن الحكومة القطرية ستحكّم العقل والمنطق إذا ما تخلصت من الأوصياء ومن يحاول أن يجعلها قزماً أصغر من مساحتها، فيما نريد أن نراها عملاقاً اقتصادياً وسياسياً. * صحافي وكاتب اقتصادي. jbanoon@
مشاركة :