رمضان شهر الرحمة والمغفرة... والصيام بالعصا

  • 6/15/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

من ذكرياتي الرمضانية البعيدة، منظر أمي إلى طاولة الإفطار في منزل أحد الجيران أو الأقارب. وبالتحديد منظر شفتيها فيما ترفع كأس الماء وتتمتم بصوت خافت قُصد به أن يكون مسموعاً، كعادة المتعبدين، بدعاء الإفطار. ليس ذلك المنظر من الغرابة في شيء ما لم أزد عليه بأن والدتي حتى اللحظة، وهي تقارع خريفها الواحد والسبعين، ما زالت تراوح في قناعاتها الإيمانية بين اللادينية والإلحاد مع فترة بعيدة جداً من الإسلام الاجتماعي (ذلك الدين الممارس تماشياً مع البيئة والمحيط دون أن يكون له أي صدى أو قناعة داخليين). بعبارةٍ أخرى فإن أمي لم تكن صائمةً إلى طاولة الإفطار تلك، ولم تدعِ عكس ذلك فقط، بل غالت في ذلك الادعاء. لا أقصد رجمها بالحجارة، فكلنا مارسنا نفس الخطيئة. فأنا التي لم تصم يوماً، اضطررت معظم حياتي إلى الادعاء بالصوم. واتتني الشجاعة حين انضممت للعمل في شركة جديدة منذ ست سنوات وأخبرت نفسي حينها بأنني إن ادعيت مرة فسأضطر للقيام بذلك كل مرة. تطلب ذلك دفعة قوية من الشجاعة وبرود الأعصاب. ومع أنني لم أخفِ يوماً قناعاتي الدينية في أي نقاش أخوضه ولا أتوانى عن إخبار الزملاء بإلحادي، في بلد يعاقب القانون على الإجهار بالإلحاد، مع كل ذلك فوجئ الكثيرون من المسلمين وغير المسلمين حين رأوني أتناول الطعام في أول يوم من أيام رمضان، لأنه "إلا رمضان!" رسالةً بات العالم بأكمله يدركها. تلك هي تجربتي مع رمضان باختصار، إلا أنني أعلم أن هناك الكثيرين ممن ما زالوا عالقين في مستنقع الادعاء الرمضاني هذا. أقوال جاهزة شاركغردكلنا مارسنا نفس الخطيئة. فأنا التي لم تصم يوماً، اضطررت معظم حياتي إلى الادعاء بالصوم... شاركغردمجتمعاتنا العربية تمارس النفاق، بل تحبه وتشجعه وترضعه لنا مع الحليب... لا بد أننا جميعاً متهمون بممارسة النفاق الاجتماعي، بدرجاتٍ متفاوتة، تعتمد على الشخص بشكل عام وعلى المجتمع الذي يعيش فيه، بشكل خاص. مجتمعاتنا العربية تمارس النفاق، بل تحبه وتشجعه وترضعه لنا مع الحليب. لا بد أن ادعاء الصوم هو نوع من أنواع النفاق، ولكن في حين يمارسه البعض اختيارياً، كوالدتي، من مبدأ "ابعد عن الشر وغنيلو"، فإن الكثيرين لا يملكون من أمرهم شيئاً إلا لعب دور الصائم لأنهم غير قادرين على تحمل عواقب الإفطار العلني.   إذ إن الضغط الاجتماعي والنفسي الممارس على المفطرين والذي تحرسه الدول بالقانون أقوى بكثير من أن يتم تحديه بسهولة. ففي مجتمعاتنا البعيدة جداً عن النضج، يعتبر الشخص "مؤمناً" قطعاً لأنه "مسلم" على الهوية، دون أي رغبةٍ في الاعتراف بأن الدين ميراثٌ من الآباء وبأنه يجب أن نملك الحرية بقبوله من عدمه. بعد ذلك تمارس هذه المجتمعات ضغطها الذي لا يرحم كي تقولبنا لنناسب الإطار الذي رسَمَتهُ لنا، ساحقةً أي تفردٍ أو رغبةٍ في التحليق خارج السرب، مطبقةً حس القطيع، ومن ثم تضع لقمعها عناوين رنانة ولبقة مثل "احترام الصائم". هل تدعي الصيام لأنك خائف من الوصمة الاجتماعية أو الغضب العائلي أو حتى القانون؟ لستَ وحيداً فهناك الآلاف، ولكنهم صامتون خوفاً شاركغرد للصيام تقديس مميز دوناً عن باقي العبادات، لا بد أن السبب أقدم وأعمق مما فعلته وتفعله تلك الآلة الإعلامية الضخمة التي جعلت من رمضان صناعةً بمليارات الدولارات، سواء كانت صناعة الميديا والتلفزيون أم صناعة الطعام أم الصناعة الدينية التي تترافق مع الشهر الكريم. فمع أن صوم رمضان هو واحد من خمسة أركان للإسلام، والصلاة والزكاة تسبقانه في الحديث النبوي، لكنك لا ترى الدول الإسلامية (عدا السعودية) تفرض الصلاة بالعصا ولا تجد واحدة منها تسن التشريعات لجبي الزكاة بالقانون مثلاً. ولست هنا أطالب بأي من هذا طبعاً وإنما أسوق هذه الأمثلة للدلالة على صبيانيتنا كمجتمعات تتعاطى مع الكثير من الأمور الحياتية كمسلّمات دونما رغبةٍ أو إرادةٍ في إعادة النظر بها. مهما كان السبب الذي أوصلنا إلى أن نعيش رمضان كما هو عليه اليوم، بالقدسية غير المبررة والإكراه غير المباشر المترافقين معه، فقد آن الأوان كي نعيد النظر في مسلماتنا ونعيد تقييم هامش الحرية الدينية الذي نملكه كأفراد في مجتمعاتنا العربية التي نعيش فيها. هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. ألف ياء ولدت وترعرعت في بلاد الشام، ولطالما كان عشقي القلم والكلمة. كتبت خاطرتي الأولى في عمر الثامنة ولكن الحياة وألاعيبها أبعدتني عن الكتابة ردحاً، ولكن لأن الحب هو للحبيب الأول فقد عدت. أهوى العمل الإنساني والعمل مع المنظمات غير الحكومية، ولي خبرة تطوعية طويلة مع الهلال الأحمر ومؤخراً مع الأصوات العالمية. أعمل في الترجمة والتحرير وتضم اهتماماتي حقوق المرأة، المجتمع والدين، السياسة والنزاعات، اللغة العربية والفلسفة. التعليقات

مشاركة :