في فيلم الكرواتية هانا يوشيك «توقف عن التحديق بصحني»، تأثر واضح بأسلوب النمسوي أولريش سيّدل، ومجازفة الدخول، في أولى تجاربها السينمائية، الى حصنه السينمائي المحكم الدفاعات، والذي لم يسبق لأحد الاقتراب منه كثيراً لصعوبته وقوة صلته برؤيته الخاصة للسينما وللمجتمعات الأوروبية، التي لم يرَ فيها أبداً جنائن على الأرض. فهو تعامل معها من خلال قصص صغيرة كشفت مدلولاتها عن عمق مشاكل أبطالها على المستوى الوجودي والأخلاقي، وظل على رغم قوة إغواء الولوج الى الأفكار الكبيرة، ممسكاً بدفة تحكمه بالمشهد الأوروبي العام من خلال الخاص الصغير. لم يدعِ فيها أفكاراً ولا نظريات تغيير حالمة، فاقترح على الدوام سرد تجارب فردية، حين يُعرض سلوكها تحت الضوء في شكل يحيلك الى واقع آخر، ما أن تُنتزع قشرته الحلوة المبهرة حتى تكتشف تحته خراباً روحياً، وسلسلة أفلام «الجنة» تقول ذلك بوضوح. فهو في «جنة الحب» أخذ قصصاً متصلة بفكرة الإشباع/ الاستغلال الجنسي لكبار السن من السياح الأوروبيين في السواحل الأفريقية. وفي «جنة الأمل»، عاين التفكك الأخلاقي والجنسي في المدارس الأوروبية، ولم يقتصر همه على تفكيك البنى الأخلاقية للعقلية الفردية في غربها فحسب، بل راح الى شرقها في «استيراد/ تصدير»، وبيّن مجموعة القيم المتبادلة بين الجانبين ومقدار ما فيها من نفاق أخلاقي حين يصل الى المتلقي، يشعره أحياناً بالغثيان لقوة صلتها بالواقع، فمن ميزات أسلوب سيّدل أن ما يعرضه روائياً أمامنا على الشاشة يصلنا كأنه وثائقيّ، وفيلم الكرواتية القادمة الجديدة الى عالم السينما فيه بعض من ذلك. تعارض أول تعابير تعارض المناخات النفسية القاسية المعتمة مع جماليات المكان، يظهر في طبيعة الشقة التي تعيش فيها الشابة ماريانا (الممثلة الرائعة ميا بيتريسِفتش). شقة في مدينة شيبنيك القريبة من ساحل البحر، مبنية على طراز العمارة الاشتراكية: كل ما فيها خانق، مساحاتها الصغيرة تجبر ساكنيها على التكدس فوق بعضهم البعض، تعاملهم وعلاقاتهم في ما بينهم تفيض كراهية. لا فسحة للحرية الشخصية فيها، التداخلات والاحتكاكات تحيلها الى سجن. وسط ذلك الجو كانت تعيش الشابة الموظفة في مختبر المستشفى المحلي حياتها بصمت، قلما كانت تعبر عن دواخلها، حتى علاقتها بأخيها (المعوق نفسياً) لم تتعدّ حدودها المرسومة وفق صياغات مجتمعية شرق أوروبية بين عواصمها ومدنها البعيدة بون شاسع من الاختلافات الاجتماعية وحتى الأخلاقية. عجز الأب المفاجئ إثر تعرّضه لجلطة دماغية سيحدث تغيراً في معادلة عيش العائلة الكرواتية البسيطة المستوى، ومنه ستنفتح الحكاية على الخارج أكثر، فيصبح حضور المكان قوياً، فيما الداخل/ الشقة يزداد تمزقاً وانعزالاً. عجز الأب ونسيان وجوده مع الوقت في فراشه كما لو أنه مات وغاب عن حياتهم، بكل ما فيه من تعابير تُذكرنا بصرخة إيفان كارامازوف، «من منا لا يتمنى موت أبيه». موت سيكون خلاصاً بالمعنى التحرري، وسيتيح للعائلة التعويض عما حُرمت منه في ظل حياة أب متسلط بقوة، راتبه الشهري وقيم ريف محافظ، وسيزيد من فرص التعرف على ماريانا أخرى حُجبت شخصيتها بقوة الهيمنة الأُسرية وحان وقت انفتاحها على عالم طالما تعاملت معه بسطحية وبإحساس طاغ بالافتراق عنه. يبدو المكان الجميل في شغل الكرواتية كريهاً وتبدو حياة الناس فيه تعيسة فلا ابتسامة ولا ضحكة تظهر على الوجوه وعدا تعابير مشاعر حب عابرة، يتولد إحساس بأنه مثل مقبرة وسط طبيعة رائعة الجمال. التحول المقبل في شخصية البطلة الصموت قليلة الجاذبية على رغم جمالها سيكون جسدياً، لإشباع حاجاته ستعاشر في علاقات عابرة شباباً عابرين لا تحتفظ بأي ذكرى عما تفعله معهم، بل على العكس يبدو تحرر طاقتها الجسدية انتقاماً من حرمان نفسي وإحباط مجتمعي تريد الخروج منه بوسيلة تبدو منقادة إليها من دون رغبة، ما يضفي على جوها تعاسة وحزناً. يطرح سلوك البطلة أسئلة حول مفهوم حرية الجسد الملتبس وصعوبة إخضاعه لمستوى واحد من التقييم، بخاصة حينما يتعلق الأمر بالمجتمعات الغربية فيطلق بسهولة على بعضها صفة «متحررة» من دون تمحيص في مستويات أخرى قد تحيط التوصيف، بخاصة حين يأتي من وعي أوروبي نقدي بهالات من الشك. لا تنحاز هانا يوشيك في فيلمها الأول الى أنثويات سينمائية، فتراها لهذا لا تلصق بنسائها صفات بطولية متضادة مع ذكورية سائدة، بل تترك لهن فرصة التعبير عن معاني وجودهن في المكان الذي يعشن فيه وغالباً ما يُلائمن مسيرة حياتهن معه. سيجلى مشهد توقفها ونزولها من الباص المتّجه الى العاصمة زغرب يوم قررت الإقامة فيها نهائياً صعوبة ترك مسؤوليتها العائلية. لحظة نزولها قررت تمضية حياتها في المدينة، التي تعرفها وتقبل بشروط عيشها، والقبول أيضاً بوجود والدتها السلبي وضعف حمية أخيها، واتفاقهم الضمني الانتقامي على نسيان وجود كائن آخر في بيتهم! فهاجس صانعة الفيلم الكرواتي - الدنماركي الإنتاج كان عرض الواقع لا تغيره، ومن هنا يتأتى طابعه «التسجيلي» فيما يُترك للروائي سرد خطه العام. النقد الواعي هذا النوع من الاشتغال «الواقعي الفج» يفرض توافر إمكانات لالتقاط القبح من وسط الجمال/ الظاهر، لا العكس كما هو مألوف، وفي فيلمها الكثير منه فالصورة الرائعة تميل الى عرض المطمور تحته من بشاعات، أكثر منه ميلاً الى عرض مشهديات باهرة. فهَم الكرواتية كان منصباً على عرض التناقض الموجود في الواقع والمعول عليه في تحقيق الشرط النقدي الواعي للمشهد الأوروبي/ الكرواتي، فزائر المدينة العابر/ السائح لن يعرف عما يكمن تحت سطحها الجميل ولن يقبل به بسهولة، لكن لو توافرت له فرصة رؤيته كما هو معروض على الشاشة، فإنه ربما سيدرك حجم التضاد بين الواقعين، وهذا ما يتوافر في فيلم «توقف عن التحديق بصحني»، والعنوان على غرابته يوحي بالنفور من تدخل الآخرين في شؤون غيرهم ويتوافق مع مضمون حكايته المبتسرة والعصية على التجسيد سينمائياً حينما تختط صانعته طريقاً سردياً مختلفاً يتطلب التوافق معه قدرات إخراجية كبيرة ومن متابعه صبراً لتذوق حلاوة المغامرة والسير عكس سائد قوي، يبدو جلياً أن الكرواتية هانا يوشيك قررت المضي فيه.
مشاركة :