موسيقار لبناني يرسم الموسيقى ألوانا تجريدية"الحواس المتحركة"، هو عنوان معرض الفنان اللبناني وليد نحاس الذي أقامه في صالة “آرت سبيس” في العاصمة اللبنانية بيروت، وهو المعرض الثاني له، وفيه تتصل الموسيقى اتصالا وثيقا بمعرضه الجديد كما في معرضه السابق، ولا غرابة في ذلك إذ أن الفنان هو موسيقار وعازف بيانو قبل أن يكون فنانا تشكيليا أراد اختبار هذا التماس والتفاعل ما بين البصري والسمعي وعلى أكثر من مستوى.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/06/09، العدد: 10658، ص(17)]لوحات صاخبة الحواس والألوان بيروت – بدأ الموسيقار اللبناني وليد نحاس المولود سنة 1975 العزف على البيانو وهو في التاسعة من عمره، وفي السنوات الأخيرة ارتأت مفاتيح البيانو أن تأخذه إلى فضاء اللوحة التشكيلية، عبر مُحاكاة وقع انسياب وضربات الريشة المُشبعة بتدرجات ألوان تحاكي منطق العزف والتأليف الموسيقي على حد السواء، فهو الموسيقار/الفنان الذي اختار وسائط غير تقليدية لتنفيذ لوحاته كاستخدامه للشوك والسكاكين والملاعق المسطحة. وفي معرضه الأخير “الحواس المتحركة” الذي أقامه في صالة “آرت سبيس” البيروتية استخدم مادة الأكريليك الطيّعة التي أمنت له الميوعة اللونية التي يُمكن من خلالها للأوان بأن تتداخل بقوة دون أن تفقد هويتها، كما هو الحال في أحيان كثيرة مع الألوان الزيتية. ويظهر في لوحات نحاس ذات الأحجام الكبيرة تأثره الشديد بفن التعبيرية التجريدية، وهي الأقرب، ربما، إلى عالم الموسيقى التجريدية والتعبيرية بطبعها. وعلى الرغم من حضور الانسيابات الشكلية للألوان التي تتخذ انحدارات والتفاتات وفق المسارات التي رسمها لها الفنان، فإن حضور الألوان كمادة يطغى، بمعزل عن سياقاتها على سطح اللوحة، وصولا إلى ذلك “الانفلات” من تصاميم الفنان الأولية، كما تطغى حسيتها على تعبيريتها، وبين الاثنين خط رفيع تفكك بشكل شبه كليّ تحت يد الفنان المصغي إلى مقاطع موسيقية مُختارة أراد أن ينقلها إلى اللوحة. تتميز ألوان وليد نحاس، حتى تلك غير الصاخبة، بقدر عال من الحسية حتى تكاد توحي بأنها مجبولة بمادة أسيدية مكنتها من التفاعل والفوران على القماش والحفر عميقا في لوحة بقيت ملساء، وإن كانت توحي عن بعد بعكس ذلك. ومن الواضح أن الموسيقار/الفنان حاول من خلال لوحاته ترجمة مختلف الأحاسيس التي تعبر روحه وجسده، غير أن التعبير جاء بشكل انصهاري موحّد غاب عنه الاختلاف بين هذا أو ذاك الشعور. وتبقى لوحتان للفنان من أهم ما عرض، وهما اللوحتان اللتان لا يشترك فيهما إلا اللون الأسود والأبيض والأحمر، حيث حضر فيهما عنصر التشكيل بالخطوط إلى جانب حضور اللون، مما رفع منسوب التعبيرية إلى حد بات يُمكّن من الإصغاء إلى الإيقاع البصري/السمعي الذي يعتمل في نفس الفنان المنهمك في العمل على لوحته. وفي هاتين اللوحتين يسوق اللون الخط ويعارض الخط اللون، فيكتسب التعبير بريقا خاصا يختلف بين اللوحة والثانية على الرغم من استخدام الألوان ذاتها، أي الأحمر والأبيض والأسود. ومع ذلك، حجب استعمال الفنان للون الأكريليك قدرة التعبير عن بلوغ أهدافه، أو ترجمة السلم الموسيقي/اللوني المتعدد الأوصاف، فالأكريليك مادة عنيدة مهما خفف بالماء يظل أقل تعبيرا من الألوان الزيتية “النزقة” والغنية والسريعة التأثر بما تختلط به أو بما يطلب منها الفنان أن تقوله أو تعكسه في اللوحة.لوحات نحاس تعكس تجربة فنان عرف في مقاطعه الموسيقية كيف يستخدم الصمت والتوتر في اللحظة غير المتوقعة ويظل الزمن معلقا في لوحات الفنان، لا سيما في تلك التي يكثر فيها استعمال الألوان، وعلى الرغم من الانزلاقات التي تأخذها الألوان في انحناءات وتشكلات مُختلفة يبقى عنصر الزمن غائبا بشكل كليّ على عكس ما هو موجود في القطع الموسيقية الأخرى، ومن ضمنها الموسيقى التي كتبها وعزفها الموسيقار وليد نحاس. كما يغيب الحس الارتجالي في اللوحات حتى وإن كان الفنان قد مارسه فعلا وهو يقوم ببناء لوحته، غياب مساحة من الحرية، المُجسد بصريا بالفراغ، لانسيابات النوتات البصرية التي حدّت من القدرة التعبيرية في إطار بارز ودّت النوتات لو كانت خارجه. لوحات الفنان وليد نحاس هي التقاط لدفقة فوران واحد تكثّف في المختبر الجغرافي للوحة، ولو نظرنا إليها من الناحية الفلسفية لوجدناها أقرب إلى المادة الأولية التي تصنع منها الموسيقى، هي في حالة انتظار ما لتكتسب نبرات مختلفة اختلاف مشاعر الفنان الناطق باسمها. ولا وجود للسرد الزمني، إن صح التعبير، في لوحة الفنان على الرغم من الألوان التي تأخذ أشكال أمواج، أمواج وليد نحاس لم تضرب بعد الشطآن، تلك الشطآن الموجودة في قلب البحار الهادرة وليس فقط عند أطرافها، حيث يغفو الصدف من شدة الملل. ربما لم يكن على الفنان أن يسير وفق محاولة واعية لمحاكاة الموسيقى في عمله الفني التشكيلي، هو الذي تنضح موسيقاه بغزارة تعبيرية لافتة، فهو وإن لم يشأ صهر شغفه بالموسيقى بشغفه بالفن التشكيلي، فذلك سيظهر بشكل تلقائي ولكن بلغة خاصة، لغة ثالثة قائمة بذاتها ليست محاولة لترجمة الموسيقى إلى مشاهد بصرية. ربما يبقى من الأفضل لزائر معرضه أن ينظر إلى أعماله على أنها تجارب بصرية صنعها فنان موسيقي بالدرجة الأولى، فنان عرف في مقاطعه الموسيقية كيف يستخدم الصمت والتوتر والصخب والتصعيد في اللحظة غير المتوقعة. وإذا كان لا بد من اختصار الانطباع الذي تتركه لوحات وليد نحاس في نفس المُشاهد، فيمكن القول إن لوحاته المعروضة في صالة “آرت سبيس” هي بحر من زيت ملون لا يعي معنى الشفافية ولا قلق التكدر ولا رعشة تبدلات النور على مستوياته حتى العتمة الكاملة، بحر من زيت مُملّح له ثقل قابض سببه، ربما، الرداء الملون الذي أراد الفنان الموسيقي أن يلبسه إياه عنوة في وقت فضّل نصه الموسيقي “الملوّن” بتوتراته أن يبقى عاريا ووحيدا في وجه الريح.
مشاركة :