معرض تشكيلي غير مسبوق في بيروت لهولندية ولبنانينظمت صالة “آرت لاب” بالعاصمة اللبنانية بيروت معرضا تشكيليا ليس جماعيا وليس فرديا تحت عنوان “نعشق ما تقدمّون”، حيث حفلت الصالة بأعمال فنانين اثنين، اشتركا ليس في تقديمهما كل واحد منهما على حدة للوحات تحت عنوان واحد، بل اشتركا في صياغة جميع اللوحات المعروضة في خطوة قد تكون غير مسبوقة، أو على الأقل نادرة جدا.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/11/24، العدد: 10822، ص(17)]عولمة لا تعد بالسعادة أبدا بيروت – احتفت قاعة “آرت لاب” البيروتية بتجربة فريدة من نوعها لمعرض ثنائي مشترك جمع بين الفنان طارق صالحاني المولود في بيروت سنة 1987 والفنانة بولي فيبس هولاند المولودة في المملكة المتحدة سنة 1984، وهو معرض حمل من العناوين “نعشق ما تقدمّون”. عنوان المعرض “نعشقها” أو “نعشق ما تقدّمون” مستوحى من أنشودة البلايين من الدولارات التي ظهرت في حملة ماكدونالد الترويجية، والتي حققت نجاحا هائلا لا يزال تأثيرها ساريا حتى الآن بالرغم من كل الحملات المُضادة التي تدين عن حقّ ما تُقدم هذه الشركة من مأكولات ضارة بالصحة العامة وبأسعار زهيدة، لتكون في متناول الجميع. يعمم الفنانان من خلال لوحاتهما فكرة ديمقراطية الفساد والتلوث والآفات الاجتماعية تحت شعار “الحب”، الحب السقيم المبني على أصول ركيكة كالإدمان الذي بدل أن يُسعى إلى التخلص منه، بات مرغوبا فيه وتستحيل رؤية الحياة من دونه. ويمكن وصف هذا الحب بأنه عملية ناجحة تطلي الأزمات المُترتبة عن التطور البشري والتكنولوجي بسكر الحلوى المُقرمشة وطرحها في السوق للاستهلاك بوصفها سلعا شعبية، ساهم الشعب في إنتاجها وترويجها حتى أدمجها بشكل كليّ في حياته اليومية. الألوان المُستخدمة في جميع اللوحات لافتة لدلالاتها، فهي إما سقيمة أو تنتمي إلى عالم اصطناعي لا يعرف عن الطبيعة والنضارة أدنى تفصيل. والمشاهد في هذه اللوحات تتكرّر فتصوّر بضعة أشخاص، أو شخصا واحدا، يتنزّهون في حقول فضاءاتها ملوّثة بسخام دواخين المحارق، وأقدامهم تسترسل في السير بين نفايات المصانع والمخلفات الكيميائية، ويحمل العديد منهم أكياس التسوّق غير مبالين، لا بل إنهم معتادون و”مستأنسون” بكل ما يحدث من حولهم من دمار بيئي وإن كان يجلب لهم كل أنواع الأضرار الممكنة، الصحية منها والنفسية والسمعية والبصرية.الألوان المستخدمة في اللوحات لافتة لدلالاتها، تنتمي إلى عالم اصطناعي لا يعرف عن الطبيعة والنضارة أدنى تفصيل فكرة تكرار هذه المشاهد من ضمن عدة لوحات لا تبعث على الملل، هي فكرة تؤكد على أن الإدمان على هذا الاهتراء، وعلى أن السعادة لا تكمن إلاّ في اقتناء الأشياء، حالة طبيعية يسهل التعامل معها لأن الجميع يعتقد بها، ولا تتطلب من أي أحد إلاّ السير دون تفكير في النظام العالمي الجديد الذي، كما أشرنا، لا يعد إلاّ بالسعادة. وفي المعرض، من ناحية أخرى، مجموعة أعمال تريد أن تصوّر حالات من الصحوة في تصرفات بعض الشخوص المرسومة، هؤلاء هم الذين يعون أن الأمور ليست على ما يُرام، وهم يشعرون بعدم القدرة على التغيير ولأكثر من سبب، هؤلاء فقط تظهر ملامح وجوههم بالغة الوضوح غير مكسوّة بدخان المصانع، ولكنها تحت تأثير خدر ما يتأرجح ما بين الاكتئاب والشقاء الجسدي. النص البصري في المعرض مُباشر جدا، وفي حال أخفق الناظر إلى اللوحات في القبض على معظم المعاني تسعفه كلمات الفنانين في تقديم المعرض على أنه فعل فني ملتزم أخذ على عاتقه فضح ملابسات هذه السعادة الزائفة والاكتفاء الوردي بنمط حياة واحدة، ظاهرها حياة اجتماعية ناشطة ومترابطة ومتلازمة المفاعيل والتوجهات التي أساسها السعي خلف الثراء، وباطنها الوحدة القاسية والإرهاق. علامات نجاح كاذب تقنعنا بها ديمقراطية، ما هي إلاّ نوع أشد خبثا وأذى من العبودية في مفهومها التقليدي، ويقدم الفنانان الأعمال الفنية بهذه الكلمات “مجتمع استهلاكي وفكر رأسمالي ينتحل المبدأ القائل بالرفاهية للجميع، وهو في حقيقته يحدّ من خيالنا ويمنعنا من أن نفكّر بصيغ مختلفة للعيش.. لم يعد هناك أي فرق ما بين العمل والعيش، وفي نفس الوقت نجد أن معظمنا عاطل عن العمل أو لا يتلقى إلاّ أجرا زهيدا لقاء عمله”. ولعل أهم ما أشار إليه النص الذي يعرّف بالمعرض، ويختصر كل ما يحدث في العالم المعاصر اليوم، ويُترجم في العديد من الأعمال التشكيلية والمفهومية، هو “نحن الآن في زمن ما بعد الفوردية، حيث تمّ ترويض جهازنا العصبي وفق ما قاله مارك فيشر، للقبول بحالة القلق وعدم الإستقرار وضرورة زيادة الإنتاج على أنه حال طبيعي، وليس حالة مرضية أوجدتها الرأسمالية”. وصل مارك فيشر إلى خلاصة تراجيدية من النوع الثقيل، مفادها أن من دون القلق والهذيان المتواصل للشعوب لا يمكن أن يستقر حال الرأسمالية على رأس الكوكب تحت شعار “الورد والسلوان للجميع”. وبالإذن من الشاعر والمفكر الفلسطيني عزالدين المناصرة، لا تحضر الأجساد والوجوه في مجموعة أخرى من اللوحات المعروضة “مُكفنة بالأخضر”، بل بكل ما هو نقيض الخضرة وما توحي به من الأمل وانبعاث الحياة من بعد الموت، هي مُكفنة بالأسود والأبيض مع غياب تام للألوان التي وكأن شخوص اللوحات قد سلختها عن ذاتها لتبقي الجرح الوجودي عاريا تحت ضربات الشقاء المُعاصر. أعمال طارق صالحاني وبولي فيبس هولاند تشتد فيها تعبيرية الوجوه وتغوص فيها مآقي العيون إلى اللاّعودة، وكما يقول الفنانان في تقديمهما للمعرض “لكثرة ما استحوذت على أدمغتنا أيقونات العصر ورموزه المنقوشة على شاشات الهواتف الذكية والشاشات الإلكترونية، بتنا لا نعي بأننا أصبحنا مجرد سلع يتم إحراقنا واستهلاكنا من دون تحفظ، ما نعيشه الآن ليس إلاّ حالة طارئة: هناك عالم آخر بانتظارنا”.
مشاركة :