أوضح وزير العدل الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى أن التشريع الجنائي الإسلامي يعتمد تدابير وقائية وإصلاحية وعقابية متنوعة، وأن الواقعة الجزائية يتم النظر إليها إصلاحيا كما يتم النظر إليها عقابيا، بما يحفظ أمن المجتمع، ويعيد تأهيل المدان. وقال خلال حديثه أمس الأول لعدد من الفعاليات «الأكاديمية والحقوقية والقضائية الأمريكية»: هناك عقوبات إصلاحية، وإننا نفضل في مراجعاتنا الأخيرة أن نسميها كذلك، لأن العقوبة يجب احترام نصها التشريعي أو سابقتها القضائية في نطاق مبدئها المستقر، ولا سلطة تقديرية في مقابل النص أو السابقة. وأضاف: وإذا كان لا يوجد عقوبة منصوصة أو سابقة قضائية تحكمها فلا مجال من حيث الأصل للتعبير بكلمة البديل، ومتى اقتنع القاضي لظروف معينة استجدت في بعض الوقائع أن يخرج بها عن السابقة القضائية فهذا الموضوع يأتي في إطار الاجتهاد الجديد الذي يتطلب العدول به عن المبدأ القضائي السابق المستقر استيفاء ترتيب معين في نظام السلطة القضائية، ونفهم من هذا أنه لا يمكن أن نعدل عن العقوبة المقررة في السابقة القضائية بغير هذا الأسلوب. تشريعات إلهية وحول عقوبة الإعدام، قال وزير العدل: إنها عقوبة مقررة في التشريع الإسلامي، ويجب العمل بنصها الإلهي، والمملكة دولة إسلامية تعتز بتحكيمها للشريعة الإسلامية، بل إن أسس كيانها قائم على ذلك، وهذه العقوبة تعمل بها العديد من الدول، ومنها دول كبرى، ويعتقد بها من حيث المبدأ كتشريع سماوي حوالى مليار ونصف المليار مسلم. وأضاف: إذا نظرنا إلى المنطق في هذه العقوبة نجد أنها بمعايير العدالة فإنه يتم من خلالها تطبيق قاعدة: الجزاء من جنس العمل، وكون العقوبة من جنس العمل، فهذا منطق لا يقبل التفكير الصحيح سواه، وإلا لتعاطفنا مع القاتل على حساب الضحية، وليس ببعيد أن نقول إن الضحية بحجم مجتمع آمن، ونلاحظ أن بعض الجهات الحقوقية، أو حتى السياسية تصطدم في تحفظاتها أو ملاحظاتها أو حتى إداناتها الخاصة بالمنطق الجنائي، وبدساتير الدول وقوانينها، وتتجاوز الخطوط الحمراء لسيادة الدول، وتتدخل في خيارها التشريعي واستقلالها القضائي، وخاصة إذا كان هذا الخيار يمثل العقيدة الوجدانية لعموم الشعب. مقارنة مشروعة وتابع الوزير ثم إن الذي صنع الحضارة المادية الغربية بفكرها الدستوري والقانوني الوضعي بعد العصور الوسطى التي مرت بأوربا هم في الحقيقة صناع الفقه والقضاء الدستوري والجنائي في الغرب، وهم الذين أقروا هذه العقوبة، وهل كانت أيديهم بعد إلغاء هذه العقوبة في عموم أوربا مثلا متلطخة في السابق بدماء بريئة بفعل نظرية عقابية أخطأوا فيها بحق الإنسانية، ثم أي خطأ؟، إنه خطأ بحجم قتل أنفس بريئة من القتل في تقدير النظريات الأخيرة، إنه وفي جميع الأحوال وكما يجب احترام عقول ونظريات أولئك الرواد الأوائل بالنسبة للحضارة المادية الغربية، يجب في المقابل احترام قناعة من يأخذ بهذه العقوبة أيا كانت خلفية قناعته، وقد كانت الأديان السماوية قبل الإسلام في نصوصها الثابتة في زمن أنبيائها تأخذ بهذه العقوبة، بل وإنه في النصوص التي يتلوها من يؤمن بها حاليا ممن بعضهم ضد هذه العقوبة نجد النص على أن سافك دم الإنسان يسفك دمه، ويقول شراح هذا النص: إنه لا يمكن أن نوجد قيما أعلى من قيم الله، إن من يناقش في عقوبة الإعدام رافضا لها ويتجاوز رفضه حدود إبداء الرأي والتعبير بالقناعة والعمل فيما يخصه، إلى إدانة من يطبقها فهو بجملة مختصرة لا يحترم الأديان ولا سيادة دساتير وقوانين الدول، ولا يحترم قناعة من بنى حضارته وأسس لقواعد نظرياته الدستورية والقانونية في شأن من الصعب أن أبدله من زمن لزمن. المقصلة والجيلوتين ومضى الدكتور محمد العيسى قائلا: وكانت عقوبة الإعدام مطبقة في بعض الدول الغربية الكبرى، وهي التي صدرت الدساتير والقوانين للعالم حتى 1982م، بل إن المقصلة أو الجيلوتين اخترعها طبيب في تلك الدولة في بدايات عصر النهضة الأوربية، وفي جميع الأحوال، فإننا نتفق على أن تحقيق عامل الزجر عن ارتكاب الجريمة، يكون في تطبيق هذه العقوبة أكثر مما يحققه الرأي الآخر، ووجود جريمة القتل بالرغم من الأخذ بعقوبة الإعدام لا يعني أنها غير مجدية كما يتصور البعض، لأن هذه الجريمة ما دام الإنسان على كوكب الأرض فستكون حتما موجودة. نصوص سماوية وحول سؤال عن عقوبة القطع في جريمة السرقة، قال الوزير: هذا كذلك نص إلهي، بل إن مبدأ قطع يد المعتدي بسوء وجدت حتى في الكتب الدينية المنتسبة للأديان السماوية فقد جاء فيها نص يقول: إذا تخاصم رجلان وتقدمت امرأة أحدهما لتخلص رجلها من يد ضاربه ومدت يدها وأمسكت بعورته فاقطع يدها، وأعتقد أن كل من يؤمن بصحة هذا النص وهم يمثلون عموم الغرب لابد أن يحترموه، وإذا تم انتقاد النص الإسلامي فلينتقد هذا بكل شجاعة وعلنا على حد سواء كما ينتقد النص الإسلامي بغض النظر عن الجانب التطبيقي فمحور الموضوع هو النص، هذه عدالة المساواة في الطرح، وإذا كان الدين ينفصل عن الدولة في الغرب فإن ديننا لا ينفصل لأننا نحترم تشريع الخالق وإلا فإننا عندئذ لم نصدق في اتباع الدين الذي ننتسب إليه. صلاحية العلماء وردا على مداخلة أحد أتباع تلك الديانة بأن النص الذي أشار إليه الوزير تم تجاوزه بحكم صلاحية علماء الدين الإلهية، قال الوزير: يبقى حسب اعتقادكم أنه وحي الخالق المنزل، وأنه يمثل في نزوله إرادة الخالق وحكمته، ولا يمكن أن يكون نص الخالق صالحا لوقت وغير صالح لوقت آخر وإلا كان نصه غير قادر على ضبط التشريع بينما يقدر على ذلك علماء الدين، ولماذا لم يكن النص من أصله من صلاحية علماء الدين وهذا أفضل من أن يعدلوا على الخالق فيما بعد، ثم حتى لا يكون هناك فئة من البشر تحظى بنص إلهي وفئة أخرى بنص علمائي. وأضاف الوزير: مع هذا فإن النص الإسلامي في حد السرقة يغلب عليه الجانب التحذيري مع عدم إغفال الجانب الوقائي والعقابي، أقول يغلب عليه الجانب التحذيري لأن الشريعة الإسلامية بحسب النصوص والشروح الفقهية تدعو صراحة إلى عدم تطبيق عقوبة قطع يد السارق للشبهة التي قد تنال من توافر شروط القطع وانتفاء الموانع. واستشهد الوزير العيسى قائلا: جاء للنبي صلى الله عليه وسلم من أقر أمامه بوقوعه في معصية أخلاقية ذات وصف فوقي في التدرج الجنائي، توجب الحكم عليه بالإعدام، ليس عند المسلمين فقط، لكن أيضا في نصوص ديانة سماوية أخرى سابقة للإسلام ينتسب لها اليوم الملايين من البشر، ومع هذا فقد حاول النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة أن يعرض على من أقر بارتكاب هذه المعصية الفوقية الاحتمالات التي قد تكون حصلت له من أجل تخفيف العقوبة، والتي بمجرد إقراره بها يتم فورا تخفيف العقوبة. عقوبة الجلد وبخصوص عقوبة الجلد، قال الوزير: إن هذه العقوبة (بوصفها المشار إليه في الأسئلة) محددة في الإسلام بنصوص على جرائم كبيرة وهي ذات وقائع مسيئة للمجتمع غاية الإساءة تتعلق بالتعدي على الأعراض والعقول، وعقوبة الجلد تحمل رسالة في التشريع العقابي الإسلامي تتلخص في أنها تشمل ألما حسيا يهدف لحفظ المجتمع بنص يحقق مصالح استباقية مع تحقيق الجزاء العقابي، والجانب التطبيقي لهذه العقوبة ليس مطلقا أو يمثل سلطة تقديرية لسلطة التنفيذ، بل يوجد لذلك ضوابط تهدف لحفظ كرامة الإنسان، وعدم المساس بحالته الصحية مطلقا. وتابع الشيخ محمد العيسى بقوله: ولا أعتقد أن الجلد بحقه الجزائي وبضوابطه المحددة يماثل مع الأسف ما يدور في الكثير من السجون والمعتقلات من الإهانة بالتعدي على الأجساد بالضرب المهين للكرامة، وللعلم أيضا فإن غالب هؤلاء المعتدى عليهم لم يحاكموا، وحتى لو تمت محاكمتهم فلا يجب معاملتهم بهذه المعاملة المهينة، وكذلك لا مقارنة في معايير الإهانة الآدمية بين الجلد وبين تكبيل المتهم وتصفيده بالحديد بصور بشعة لو فعلت مع الحيوان لتقزز منها الإنسان، وهي مع الأسف تمارس مع المتهمين، نعم تمارس معهم بدون قيم أخلاقية تراعي الكرامة الآدمية مهما صدر من الإنسان. هذا إذا كان مدانا فكيف وهو لايزال متهما. مفاجأة غريبة واستطرد الوزير العيسى: إن حجة من تحاورنا معهم في وقت سابق حول هذا (وهم مع المفاجأة الغريبة من الفعاليات الحقوقية في دول متقدمة) حجتهم هي أن من أوقع نفسه في دائرة الشبهة بمجرد أدنى قرينة جنائية يستحق الإجراءات المشار إليها، ولو كان في مرحلة جمع الأدلة والتحقيق والحبس الاحتياطي، وأنه هو الذي جر لنفسه ألمها الجسدي والنفسي حتى لو كان في اعتقاده واعتقاد غيره مهِينا. وتساءل الوزير العيسى هل يقارن هذا الإجراء المهين للمتهم، بجلد المدان بقيود تحفظ كرامته الآدمية وتجازيه على تجاوزه على مجتمعه الآمن. ضوابط دقيقة ونعود وكما ذكرنا في عقوبة القطع لنقول إن تشريع الجلد في حالات معينة وبضوابط دقيقة أشرنا إليها، هذا التشريع من حيث الأصل وبإطلاق ليس له قيود يعرفه من ينسب نفسه لديانات سماوية يحترمها المعترض، ويحترم نصوصها، ومن ذلك عدم وصفه لها بأي وصف قد وصف به عقوبة الجلد في الإسلام، وقد جاء في تلك النصوص لتلك الديانات أن الجلد علنا كان وسيلة عقاب الرجل الذي يتهم زوجته باطلا بأنها لم تكن عذراء عندما تزوجها، وهو نص مقدس في ديانة يؤمن بها أكثر سكان كوكبنا، ومن منطق عدالة المساواة في النقد لا بد من شمول هذا النص بالنقد واعتباره غير أخلاقي ولا إنساني بوصفه نصا مجردا سواء تم تطبيقه أو لم يتم نقول هذا لأن التنظير لا ينفك في التحليل الحقوقي عن التطبيق مطلقا. الإصلاحات المهنية وحول الإصلاحات المهنية أشار الوزير إلى أنه لا يستحق المسؤولية من يخشى ضريبة الإصلاح، ولا من يبحث عن الأصوات أو يتحاشاها على حساب القيم الأخلاقية والإنسانية. وعن انتقاد الأحكام القضائية، قال الوزير حول بعض الموضوعات التي سئل عنها وتختص بانتقادات معينة لقضايا أحوال شخصية وجنائية، قال: كثيرا ما أسمع في هذا العديد من النقاشات ولا أجيب عنها إلا بالقاعدة العامة التي تقول: لا جدوى ولا قيمة للحديث عن الأحكام قبل نفاذها سوى محاولة التأثير على حسن سير العدالة فيها، ولذلك منعته القواعد النظامية كما منعته عندنا نصا أثناء النظر القضائي في مرحلته الابتدائية، أما انتقادها في السياق الحاد الذي نسمعه (ليس على أحكامنا فقط بل نجده على أحكام غيرنا أيضا)، فهو بعد أن تكتسب النفاذ بالقطعية يعتبر في العرف القانوني المستقر ازدراء لقضائها، وهو في توصيفه الجزائي قد يصل إلى رتبة الجناية بحسب درجة التجني والحدة في الاتهام والتأثير على الرأي العام بالقول المفضي للفعل الضار، لأن كل اعتراض عليها من المفترض أن يكون تم تقديمه لدرجة التقاضي الأعلى درجة في سياق ضمانات التقاضي، فلا وجه مطلقا لطرحه بالنقد أمام الرأي العام غير المختص ولا المؤهل لمناقشتها علاوة على أنه مغيب عن تفاصيل وقائعها والتي من المستبعد أن يستعرضها المنتقد بكل دقة وحياد، لكن في مثل حواراتنا العلمية هذه نستعرض الأسس التي بنيت عليها ونتحاور فيها لا على أساس النقاش على الحكم، لكن على الأسس التشريعية لها والنظريات العلمية المتعلقة بها، وهي التي استعرضنا بعضا منها في هذا الاجتماع الذي أعتقد أنه شفاف من جميع الأطراف بكل المقاييس، وديننا يرشدنا للحوار وبيان حكمته التشريعية والدعوة إلى قبولها والأخذ بهدايتها دون إكراه بالإلزام بها لغير المسلمين.ذ
مشاركة :