حظيت المملكة العربية السعودية، منذ تأسيسها قبل أكثر من مئة عام في ما يوصف اليوم بالدولة السعودية الثالثة، بخصائص ومزايا لم تحظَ بها مجتمعة، دولة أخرى من الوطن العربي أو الإسلامي، بل وربما أمكنت زيادة مساحة هذا التفرّد حتى خارج نطاق العالمين العربي والإسلامي. يمكن إيجاز هذه الخصائص على النحو التالي: الخاصية الدينية: فهي مهبط الإسلام ومهد الحرمين الشريفين وقِبلة أكثر من بليون ونصف بليون إنسان في هذا العالم. الخاصية الجيوسياسية: فالسعودية تتمدد على الجزء الأكبر من أرض الجزيرة العربية، وعلى شواطئها المتطاولة على البحر الأحمر غرباً والخليج العربي شرقاً، لتكون حلقة ربط بين القارات الثلاث الأهم على الأرض. الخاصية النفطية: إذ تكتنز أرض السعودية أكبر مخزون نفطي في العالم، ما خوّلها منذ اكتشاف النفط في أراضيها أن تكون (قِبلة) النفط في العالم. خاصية الاستقرار السياسي: فالنظام الملكي الذي يحكم البلاد منذ تأسيسها ظل متماسكاً عبر التعاقب السلس للملوك واحداً بعد الآخر، من دون أن تتعرض المؤسسة الحاكمة لاختلالات أو نزاعات تربك المشهد السياسي المستقر فيها. ليس من قبيل المبالغة القول إنه يندر أن تجد دولة أخرى في العالم، في كل العالم الآن، تحظى بكل هذه الخصائص الدينية والسياسية والاقتصادية مجتمعةً في كيان جغرافي واحد. هذه الخصائص الذهبية كفيلة باستهداف المملكة العربية السعودية والتشغيب عليها من لدن دول مختلفة من العالم، وبنوايا ودوافع مختلفة ومتنوعة، لكنها تصبّ كلها في هدف واحد هو هزّ استقرار هذا البلد ذي الخصائص الفريدة، المثيرة للغيرة أو للطمع! تنطلق معظم التحركات المستهدِفة استقرار السعودية من الرغبة في خلخلة قدرتها القيادية، التي توفرها لها الخصائص الفريدة، من بين دول الشرق الأوسط ومن العالم الإسلامي في جغرافيته الأوسع. بعيداً من الأهداف الصغيرة والأطماع الانتهازية، فإن هدف زعزعة القدرة القيادية لبلاد الحرمين الشريفين وأرض الجزيرة العربية ومخزن النفط العالمي هو الهدف الأكبر والأكثر رسوخاً وديمومةً من لدن الدول الكبرى خصوصاً، إذ إن مؤهلات (القيادة) لدى المملكة العربية السعودية تخوّلها بجدارة أن تكون دولة إسلامية عظمى ومؤثرة في بوصلة هذا العالم... فهل سيُرضي هذا التأهل الدول التي تربّعت على لقب (العظمى) منذ عقود كأميركا، أو منذ قرون كبريطانيا وروسيا وفرنسا؟! لكنّ بلاد القبلة الإسلامية وأرض الجزيرة العربية لا تواجه هذه النوايا الشريرة فقط من لدن الدول المغايرة لها دينياً وعرقياً، ولكنها أيضاً من لدن دول مجاورة وشريكة في الدين وفي العِرق، وهذا ما يصعّب مهمتها في الدفاع والتصدي لمحاولات هزّ زعامتها وزعزعة استقرارها، خصوصاً أن ملاحاة الأقربين تكون دوماً أشد وطئاً من ملاحاة الأبعدين! ولا تنسى الذاكرة الوطنية السعودية محاولات التقزيم والأذى الذي تعرضت له من لدن مصر/ عبدالناصر خلال الستينيات، ومن عراق/ صدام خلال التسعينيات، ومن ليبيا/ القذافي أواخر التسعينيات ومطلع الألفية، ومن إيران/ الخميني التي وجّهت إلى السعودية أذىً متطاولاً منذ مجيء الثورة الإيرانية. واليوم تكشف السعودية ملف الأذيّة الذي تعرضت له من لدن قطر/ حمد بن خليفة منذ مجيئه إلى الحكم منتصف التسعينيات. وقد حاولت القيادة السعودية، بما عُهد عنها من طول بال مع الخصوم، استيعاب صدمة تلك التجاوزات الآتية من دولة خليجية، طوال عقدين من التريّث! القلق السعودي مفهوم إزاء تجاوزات تأتيك من جارٍ لصيق ليس بينك وبينه أبواب مغلقة. لا باب سوى باب الثقة المتبادلة، لكنها ربما لم تعد متبادلة! ولن تحتاج السعودية الحازمة الآن إلى عشرين سنة أخرى لترفع رايات الغضب على دولة شقيقة قد تُمارس دوراً مسيئاً ومؤذياً للسعودية، كما فعلت قطر. جديرٌ بالتذكير، أن التنافسية والاستهداف اللذين تتعرض لهما السعودية ليسا حالةً فريدة غير مسبوقة في التاريخ السياسي لدول العالم، فقد حدث تنافس (كسر العظم) بين دويلات أوروبية، بل وحتى دويلات إسلامية في عصور ما قبل نشوء الدولة الحديثة. ثم أيضاً بعد نشوء الدولة الحديثة، خصوصاً إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي حوّلت دولاً قيادية إلى هامشية ثم أحلَّت محلّها دولاً أخرى، أصبحت عظمى. لكن المملكة العربية السعودية، بتكوينها الجيوسياسي، لا يمكنها قبول فكرة تحوّلها إلى دولة هامشية، لأن خصائص التميز فيها والتفرّد عمن سواها ليست متحولة أو منقولة، ففي ما عدا القوة الاقتصادية التي (قد) تختل بنضوب النفط، فإن الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين ليست ميزة منقولة أو قابلة للتهميش، كما أن الموقع الاستراتيجي لأرض الجزيرة العربية ومعابرها المائية بين الشرق والغرب لا يمكن الاستغناء عنها أو تحويرها. لكن هذا المنطق التحليلي لقوة الدولة السعودية لن يمنع الدول البعيدة من محاولاتها المتواصلة لمنع السعودية من أخذ موقع قيادي يهدّد المصالح الانتهازية لتلك الدول. كما لن يمنع، للأسف، الدول القريبة من محاولات سلب القيادة من السعودية إليها، أو على الأقل مشاركتها القيادة! الدول التي تستطيع وترضى بأن تكون هامشية، تكون أوفر حظاً في تقليص الاستعداء والاستهداف تجاهها. * كاتب سعودي
مشاركة :