في عالمٍ تفوح منه رائحة الموت، وتثمر الكراهية حقولاً باتساع المدى، ويتغنى الصبية بأناشيد العنصرية، لا مكان لشخصية مثل غاندي. هل كان ظهور غاندي يوماً داعياً إلى مقاومة سلمية ضد أعداء الحياة وأنصار الموت، خطأً تاريخياً لا مجال لإعادة إنتاجه سوى في القصص والروايات. تسعى عزة رشاد، قاصة وروائية مصرية، من خلال مجموعتها «حائط غاندي» (دار كيان) إلى إعادة إنتاج خطأ التاريخ في القصة القصيرة. لا تكتفي بعدد من القصص التي يحضر فيها غاندى من التاريخ ليسكن السرد، إذ لا تفوت فرصة من دون أن تبث روحه في كل سطر تكتبه. إنها مجموعة قصصية مكتنزة بمشاعر وأحلام وآلام إنسانية يزيدها الوعي بألاعيب التاريخ وحيل البشر قدرة على التأثير في القارئ ليجد نفسه متورطاً في تفكيك التاريخ وتوزيع لحظات مفصلية فيه وفق منطق السرد الذاتي لا منطق التاريخ الغيري. وبمجرد التورط في توزيع تلك اللحظات يتشكل نسيج بشري من شخصيات أتت من أزمنة مختلفة لتحاور راوية لا يمكنها العيش في هذا العالم إلا بقلب غاندي. إنه القلب الذي يمثل حائط الصد الأخير ضد حقول الموت مترامية الأطراف وسريعة الانتشار، قادرة على حصد الحياة بسهولةٍ لم يعرف لها التاريخ الإنساني مثلاً من قبل. تضم مجموعة «حائط غاندي» اثنتين وعشرين قصة قصيرة تجمع بينها سمات مشتركة منها طريقة الرؤية إلى العالم. تتميّز القصص بنزعة إنسانية ينطلق منها المؤلف الضمني والكاتبة عزة رشاد نفسها. وتصحب تلك النزعة مساءلة للذات في مواجهتها للعالم الدامي، ما ينعكس في حضور ملحوظ لضمير (الأنتِ) ضميراً للراوية. ويشاركه الحضور أحياناً ضمير المتكلم حين تكون المساءلة بين لحظة تتبدى فيها الأنا في مواجهة الأنتِ مثلما في قصة «قطار»، حيث تُحاط الراوية الشابة بسياق لا أمان فيه لجسدها من التحرش الذي يدفعها لأن تستعيد حادث اغتصابها وهي طفلة على يد زوج أمها، فتلتقي لحظة استدعاء الحادث من الذاكرة مع لحظة إعادة إنتاج الحادث ذاته مجدداً أمام عينيها، حين تترك أمٌ طفلتها على المقعد وتذهب إلى الحمام، فيجلس رجل بجوارها ليعبث بها ثم يهرب فتنفجر الراوية في وجه الأم قائلة ما لم تقله لأمها التي ستذهب بعد قليل لمقابلتها ومواساتها في دفن زوجها الذي صار منقوشاً في ذاكرتها بالدم. وقد تكون المساءلة للعالم في شكل مواجهة بين ضمير المخاطبة (الأنتِ) وضمير الغائبة (هي) اللتين تجمعهما لحظة انكشاف للحقيقة، مثلما في قصة «قبعة وبدائل أخرى» والتي تعيد طرح سؤال مفهوم الأنوثة في مجتمع يسوده الفكر الرجعي الذي يصل إلى ذروته مع وصول السلطة السياسية المستبدة لاكتشاف خطير، وهو أن شَعر الأنثى أداة تعذيب للنساء الثائرات في الميادين. وهنا يكون قد حدث انفصال بين ماضي الراوية وحاضرها، فالميدان الذي كانت فيه امرأة ثائرة ذات شَعر صار ماضياً مثلما صارت هي مجرد ضمير غائب، أما في الحاضر فصارت امرأة ذات قبعة/ بديل الشعر، وصارت الحياة شاشة تشاهدها في المستشفى، «في حال حدوث ما يمنعك من المشاركة في التظاهرة فستقوم قبعتك بتنبيهك لكي تفتحي عينيك وتتابعا (أنتِ وهي) سيرة التظاهرة من شاشة العرض الكبيرة في المستشفى... الشاشة التي تشبه الحياة تماماً» (ص21). ولا تتوقف المساءلة عند حدود الخبرة الشخصية للراوية في الحياة الواقعية، وإنما تمتد إلى الموروث الثقافي والتاريخي الذي تربت عليه وتربى عليه غيرها من الرجال والنساء، ويتجلى ذلك في قصة «حكاية لوحة» عبر مساءلة الفن التشكيلي، ونموذجه هنا لوحة «العشاء الأخير» لدافنشي التي تنتبه الراوية إلى خلوها من امرأة. كما تتم مساءلة الموروث الثقافي في قصة «مراوغات بسيطة»، عبر كشف التناقض بين حكايات الجدة للراوية الطفلة عن السفاح الذي يقتل النساء، لتخويفها من النزول إلى الشارع. بينما تتواطأ الجدة مع «أبلة فايزة» التي تراها الراوية الطفلة من الشباك وهي مذعورة بين يدي «الواد زعيزع» وهو ينزع عنها ثيابها، فتظنه الطفلة سفاحاً، فتجري لتخبر جدتها، لكن الجدة تهدئها وتستر على فايزة لتستغلها في قضاء مشاويرها ليصبح الجنس عند الطفلة علاقة بين سفاحين وسفاحات. إنه التناقض بين التربية بالحكايات والأقوال المأثورة الوعظية والتربية بالتواطؤ ضد ما هو إنساني. أما التاريخ فتتم مساءلته بوصفه موروثاً ثقافياً عبر استحضار شخصية شجرة الدر إلى سياق الفضاء الافتراضي الموظف في إطار القصة للبحث عن كيفية تحقيقها للتمرد والخروج عن قضبان التاريخ المرسومة للمرأة حتى لا تحيد عنها. كما تكشف الراوية من خلال الحوار مع شجرة الدر عن دور النساء في قمع النساء وإرغام بعضهن بعضاً على السير على القضبان المرسومة لهن من قبل سلطة ذكورية مجتمعية ضاربة بجذورها في التاريخ، ولا يمكن الخروج عنها وإلا كان المصير مشافي المجانين. ترفض الراوية أن تكون امتداداً لشهرزاد التي تؤجل عمرها يوماً بالحكي الخادع المسلي، وتحلم بأن تعيش حياتها كامتداد لشجرة الدر المتمردة. لكنها تدرك صعوبة حلمها وكأنه ليس بمقدور الأنثى «ابنة الموت» أو «سيدة الهباء» أن تكون «سيدة القصر» فتختفي شجرة الدر لتسمو فتختلط خيوط التاريخ وشخوصه في سماء ميدان الثورة لتتجلى مريم العذراء «سيدة العالمين»، «افسحوا لي يا أبنائي. أنا سيدة العالمين. أنا مريم العذراء» (ص30). إن مساءلة المرأة/ الراوية للعالم الدامي لا تغير من طبيعته الدموية ولا تجعله أكثر احتمالاً، لأنه عالم أصم لا يسمع سوى صوت مطلقي الرصاص على الأطفال. لكن دموية العالم لا تحيل الأنثى التي يسكن جسدها روح غاندي إلى إصبع يضغط على الزناد أو يعزف الموت بأي صورة من الصور، وإنما بقيت الأنثى/ الراوية على رغم ترهل جسدها بفعل الزواج وتوقف عقلها عن التفكير بفعل الروتين والنمطية، هي الأنثى التي أورثها غاندي قلبه لتتعاطف مع الطفل الذي خطف حقيبتها وجرى لتصدمه سيارة. إنها الأنثى التي تشعر بالخوف على المجرمين في حقها، فترى معها في قصة «سويتر جلد بني» أن مجرد ظهوره على الشاشة ضمن أحراز قضية قُتل المتهم فيها، قاسم إنساني مشترك بين الذين يرتدون مثل هذا الجاكيت الجلدي البني ومنهم ابنها!
مشاركة :