"من قاعات مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس نحن نخوض معارك بلادنا في الجو والأرض والبحر" هذا المقطع هو مطلع نشيد البحرية الأميركية الذي يردده الضباط كل صباح، وفيه يذكرون طرابلس الليبية ويتوعدونها بالحرب والدمار والهلاك؛ ليكشفوا عقدة أميركية متوارثة منذ بدايات القرن التاسع عشر أثرت عميقاً على تفكير وسلوك زعماء أميركا تجاه طرابلس تحديداً، وتجاه كل مَن يتحدى غطرسة البيت الأبيض. لا نبالغ بقولنا إن ليبيا القطر الصغير بتعداده الكبير بأمجاده هو من أصاب الأميركان اليوم بما يسميه علماء النفس "عقدة برجوديس"، التي تطلق على كل مَن يضمر الحقد العميق للآخر المختلف المغرد بعيداً عن سرب الطاعة والولاء، وتعود أسباب الحقد الدفين والكراهية المقيتة لأحداث الحرب الطرابلسية بين سنتَي 1801 و1805 زمن يوسف باشا القره مانلي الذي كان أول زعيم يعلن الحرب على أميركا بسبب عدم احترامها لسيادة بلاده، وانتهت تلك الحرب كما هو معلوم بهزيمة أميركية مدوية وبأسر المدمرة الأميركية "فيلادلفيا"، وعلى متنها المئات من القوات الغازية. ليبيا لا يمكن إلا أن تكون متمردة منفردة مغردة بعيداً عن طوابير الموالين الراكعين الساجدين لأرباب الإمبريالية، هكذا يحدثنا تاريخها منذ المعركة المذكورة آنفاً إلى صولات عمر المختار ورفاقه وإلى الثائر الأممي الخالد معمر القذافي، لم يكن القره مانلي ولا القذافي استثناء بل أنموذجاً من هذا الشعب العظيم الذي قال عنه الراحل أحمد بن بلة في مذكراته إنه أحب شعوب الأرض إلى قلبه. وإن كانت فورة ما سُمي بالربيع قد خدع بهرجها جمهور التواقين إلى نظام سياسي مغاير فإن انقشاع الغمامة واعتراف قادة الغزو أمثال ساركوزي وبرلسكوني بتدبير الحرب وحياكة فصول المؤامرة في الغرف المظلمة قد وضع الشعب الليبي أمام حتمية تغيير الواقع المفروض غربياً بمد اليد لرموز النظام الوطني الجماهيري، ولزعيمه سيف الإسلام؛ لتجنيب البلاد مصيراً أسود كمصير العراق الغارق في أنهار الدم، أو كمصير الأندلس الفقيد الذي أهلكه حكم ملوك الطوائف. البيان الصادر عن كتيبة أبو بكر الصديق، الذي أعلنت فيه إفراجها عن الأسير سيف الإسلام وعن مغادرته مدينة الزنتان إلى مكان غير معلوم حتى اللحظة، وما رافق ذلك من مظاهر احتفالية شعبية بدأت تشمل حتى المناطق التي مثلت ذات يوم أسود مهد ما أسماه الغرب بالثورة، يشير إلى أن ليبيا تسير حثيثة الخطى نحو الخروج قوية من تحت رماد حريقها كما تخرج العنقاء في الأسطورة اليونانية القديمة من الموت إلى الخلود، بعد أن خلنا طيلة سنوات عجاف أن البلد قد انتهى بلا رجعة، وأنه محكوم بأمراء الحروب إلى ما لا نهاية. قرار الإفراج تم تداوله منذ مدة ليست بالقصيرة والبيان جاء تطبيقاً لقانون العفو العام الصادر عن البرلمان الليبي، ونعتقد أنها الخطوة الأهم في مسيرة طويلة عزم الليبيون على إكمالها حتى يبزغ فجر ليبيا أو الجماهيرية أو أي نظام يتفق عليه الأشقاء، ومع اليقين بأن الفاعلين الدوليين لن يألوا جهداً في إجهاض هذه المساعي الطيبة لحقن الدم الليبي، بما يضمن لهم ديمومة سيطرتهم على مقدرات البلاد الغنية برجالها وثرواتها، فإن الدرس الذي تعلمناه وآمنا به أن الإرادة الحرة النابعة من الحرص على مصلحة المجموعة هي التي تنتصر في النهاية، وأن الليبيين العازمين على ضرب توصيات الغرب بعرض الحائط نراهم قادرين على طي صفحة حمراء وسوداء صبغت لون المد الأخضر، ومع الإيمان بأن ليبيا قادرة على استيعاب كل أبنائها بمختلف توجهاتهم الفكرية، وقادرة على صنع التاريخ منفردة، كما عودتنا، فإن اليقين بداخلنا راسخ بأن الغد في ربوع طرابلس سيكون مشرقاً، وإن الانعتاق من ربقة الناتو وداعميه من الأشقاء العرب نراه قريباً قادماً لا محالة. المصالحة التي يبدو أن الليبيين قد عزموا عليها نعتقد أنها إن توافقت مع استعادة السيادة كاملة غير منقوصة على مقدرات البلاد، ومع طرد كل شركات الطاقة الذين ظهروا إبان انهيار النظام الجماهيري، ومع العودة لقوانين التأميم والسيادة، فإن البلاد مقبلة على ثورة حقيقية لا قبل للغرب بها قد يلعب فيها سيف الإسلام دوراً رائداً، وما نرجوه أن يحسن الأشقاء الاعتبار من دروس العدوان، وأن يسدوا المنافذ أمام العدو المتربص، وأن يكونوا أوفياء لتاريخهم التليد، فإنه من نوائب الدهر وسخرياته أن يأتي الغرب ليعلم الليبيين كيفية إنشاء جمهورية حديثة المؤسسات، والحال أن أول جمهورية عربية كانت قد ظهرت في الغرب الليبي ودامت من سنة 1918 إلى سنة 1922 أي قبل ميلاد الجمهورية الإيطالية بأكثر من عقدين من الزمن، فهذا البلد وجد ليكون رائداً لا تابعاً، وتشهد له بذلك قمم إفريقيا وعواصمها، كما يشهد له مقر الأمم المتحدة، وتردد جدرانه صدى الخطاب الخالد للزعيم الراحل الذي ذهب ليمزق ميثاق الزيف والخداع ويعود إلى خيمته البسيطة آمناً. انهيار ليبيا كان كارثة ليس فقط على أهل البلاد وزوارها ولا على ثوار العالم من أيرلندا إلى العمق الإفريقي الذين دعمهم نظام الصمود والتحدي، لكنه كان وبالاً على الاتحاد الإفريقي الوليد الذي كان قد بدأ يتلمس طريقه نحو الوجود بقيادة ملك ملوك إفريقيا، والذي تعطل نموه مع استشهاد معمر القذافي كما كان الانهيار كذلك وبالاً على القضية العربية التي أهمل زعماؤها القارة السمراء وتجاهلوا حقيقة أنها العمق الاستراتيجي الأجدى بالاهتمام، ولا غرو أن يحل الصهيوني نتنياهو بإفريقيا ويجتمع بقادتها حاثاً إياهم على بدء صفحة جديدة مع كيانه الهزيل بعد أن كانت القارة السمراء منطقة تكاد تكون محظورة على الطيران الصهيوني، وربما باستثناء جمال عبد الناصر والقذافي فإن بقية القادة العرب لم يولوا الاهتمام اللازم لهذه الأرض البكر التي بقيت عصية على الغزو الثقافي الغربي، وإن بدا ملك المغرب اليوم مهتماً بشأن القارة السمراء، فإن اهتمامه ليس لقطع الطريق أمام الآلة الصهيونية بقدر ما يصب في المصلحة القُطْرية الضيقة التي يكون أثرها على الأمة طفيفاً أو غير محسوس في الغالب، ومع أملنا في تعافي ليبيا وعودة رجال الجماهيرية إلى العمل السياسي، فإن الحنين يأخذنا إلى زمن ليس ببعيد كانت فيه القضية العربية في وجدان الأفارقة الذين كانوا سباقين بقطع العلاقات مع دولة الاحتلال إبان حرب التحرير سنة 1973، وأن نترك أرض توماس سانكارا وكوامي نكروما وجوليوس نيريري مرتعاً للصهاينة فهذا يفقدنا الدعم الطبيعي والمد الجيوسياسي الذي سيمكننا من كسر شوكة الاحتلال الغاشم ذات يوم. نحن لا نملي على أشقائنا في ليبيا شكل النظام الذي يريدونه، لكن أمتنا بحاجة إلى استعادة ليبيا لإشعاعها القاري والعالمي، ومن دون ذلك الحضور المهيب لرجال المد الأخضر، فإن الأمة العربية والقارة الإفريقية ستكون في أشد حالاتها وهناً، ونرى أن بريقاً من الأمل يشع في هذه الرقعة مع الإفراج عن نجل العقيد الشهيد علّ هذه الخطوة تكون فاتحة لدفن النكبة الليبية. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :