حين يجعل الغذامي من أوروبا اليوم كتاباً مفتوحاً، لاختبار مفهوم «النسق» في كتابه «الليبرالية الجديدة» تتجلى لنا العديد من المجازفات التي تعكس مدى خطورة ممارسات النقد الثقافي لديه، فيما هو يقارب، نظرياً، جملة من السياقات الفلسفية والثقافية المركبة لمسار الحداثة الأوروبية والأمريكية من خلال تأويلات مفترضة ومجانية على نحو: «بما أن أوروبا صارت كتاباً مفتوحاً نقرأ فيه كتب النظريات، ونقرأ فيه صيغ التطبيق لهذه النظريات مع ما يعتورها من ثغرات تكشف لنا سيرة النظرية وتوفر علينا وقتاً وتفكراً ونحن وهم في قارب كوني وذهني متماثل من حيث قوته ومن حيث عمقه» (كتاب الليبرالية الجديدة ــ صفحة 51) ففي هذا المقطع من الكتاب: خلط بين تقرير واقع، وتمرير نتيجة مزيفة انطلاقاً من ذلك الواقع. فليس صحيحاً أن أوروبا اليوم ــ هكذا جملة واحدة ــ هي مختبر لمختلف النظريات (ما نوع هذه النظريات مثلاً) ففي هذا التأويل تعميم مخل بصيرورات مختلفة؛ فأوروبا اليوم ليست كتلة واحدة ــ كما يريد أن يوحي الغذامي من خلال ذلك التعميم النظري ــ وما يؤثر اليوم في أوروبا؛ هو - فقط - غربها الليبرالي / الرأسمالي. وهو غرب لم يطبق النظرية الماركسية مثلاً ــ رغم رهان ماركس عليه ــ اللهم إلا في تجربة ألمانيا الشرقية وهي تجربة محدودة زمنياً». وبالتأمل في جملة من الأفكار التي ناقشها الغذامي يتجلى لنا أن تطبيقاته في النقد الثقافي، هي نسخة مؤدلجة لاتجاه دراسات ما بعد الاستعمار؛ لهذا نجده محتفياً بفكرة الما بعد: ما بعد الحداثة، ما بعد العولمة. فثورات الربيع العربي بالنسبة للغذامي هي من أهم خصائص مرحلة ما بعد العولمة ضمن نظرية (الاحتقان) التي يراها بنية مفهومية متماسكة وقادرة على استقطاب ظواهر ثورية مختلفة تجتمع فيها ثورات الربيع العربي، وأحداث لندن 2011، وحركة (احتلو وول ستريت). ومن أهم خصائص ثورات ما بعد العولمة ــ انطلاقاً من نموذج الربيع العربي ــ هي: (الجماهيرية والسلمية ــ والجماهيرية تقتضي عد الأيدلوجية وانتفاء الزعامة والقيادة النظرية) ولهذا أيضاً فإن ثورات الربيع العربي (تشبعت من كل ما سبق من نظريات «يقصد نظريات الثورة العالمية» وهي نظريات ضاقت بها فثارت عليها وأطلقت العنان للبشر من بعد كسر القيد، أي القيد السياسي والقيد الأيدلوجي المتحزب والمبرمج سياسيا) «كتاب الليبرالية الجديدة ص 47». حين يخلص الغذامي إلى مثل هذه النتيجة، ويدرج الربيع العربي في سياق تداعيات حركة ما بعد العولمة، مفترضاً استبطان ثورات الربيع العربي لنظريات الثورة العالمية التي تشبعت بها (وهذا غير صحيح بالطبع) يضعنا أمام منظومة متناقضة وملفقة تماماً في رؤيته. فالثورات العالمية (الفرنسية وغيرها) نتجت أساساً للوعي المعرفي الذي شكل قطيعة مع منظومة المعرفة القديمة، كما تمثلت حراكها من خلال بنية طبقية قادرة على رؤية المصالح الموضوعية العابرة للطوائف والجماعات الإثنية، وأخيراً كانت الثورات الكلاسيكية العالمية تختبر التغيير من خلال الأحزاب بوصفها الرافعة الحقيقية للتغيير بالإضافة إلى قانون الصيرورة الذي حكم مسارها إلى أن شكلت اليوم صورة العالم الحديث. وهذا بالضبط ما غاب عن ثورات الربيع العربي ــ ماعدا تونس بالطبع ــ وأوقعها من ثم في انسدادات منهجية مهدت التفافاً لعودة النظام القديم كما هو الحال اليوم. إن الأدلجة في نظرية الاحتقان كما يطرحها الغذامي في كتابه (الليبرالية الجديدة) تلجئه بالضرورة إلى مقارنات مجحفة ومتجاوزة لحيثيات موضوعية ومنهجية، حين يفترض تسوية مجانية بين ردود فعل ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا، وبين القذافي حيث يقول: (ومن تأمل في لغة ديفيد كاميرون وفي تصرفه تجاه أحداث لندن سيسمع مفردات لغوية لا تختلف عن مفردات القذافي) «كتاب الليبرالية الجديدة ص 35» دون أن ينتبه الغذامي، مثلاً، إلى الحدود القانونية والحضارية والإنسانية التي تمنع كاميرون من التفوه مطلقاً بألفاظ القذافي!! ثمة الكثير من الملاحظات المنهجية في كتاب (الليبرالية الجديدة) تحتاج إلى وقفات أخرى لا تسمح بها هذه المساحة، وربما نعود إليها في قراءات لاحقة.
مشاركة :