لأن جينكينز يعيش حياة مطمئنة ويكتب باطمئنان. لذلك تبدو أفكاره بشأن بلداننا العربية أقرب إلى ما نفكر فيه، وليس ما يفكر فيه عادة الصحافي الغربي بطريقة غير مكتملة بشأن أحوالنا.العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/07/01، العدد: 10678، ص(18)] تحول ما كتبته الأسبوع الماضي بشأن الحاجة الماسة إلى الخيال الأدبي في اللغة الصحافية، إلى ما يشبه “إدانتي” على ما أفكر وما أكتب! بالنسبة إلى بعض الزملاء. ليس مهما أن أعرض هنا الثناءات، فهي قد تكون لا أهمية لها حيال ما كتبته زميلة عزيزة وصحافية بارعة بأنني لا أقرأ غير الصحافة الأجنبية، وهو أمر يشغلني عن نخبة من أهم الكتاب العرب. وأوردت نماذج لمن ترى أنهم كتاب صحافيون بخيال أدبي. بينما اتهمني أستاذ جامعي بأنني مجرد “هامش” لما يرد في صحيفة الغارديان البريطانية بشأن آلية ومستقبل وسائل الإعلام، وهو أمر غير واقعي مطلقا عندما يتعلق بالصحافة العربية. فيما وصف زميل من العراق دعوتي إلى الخيال الأدبي في اللغة الصحافية، بأنها تعبر عن الترف الذي أعيشه في الحياة والعمل، وهي لعمري تهمة تستحق التعاطف مع مُطلقها لأنه يعيش في جحيم العراق، وتغبطني وسط ضغط عمل منهك لا ترف فيه في إدارة تحرير جريدة يومية تصدر سبعة أيام في الأسبوع! وادعاءات أخرى تتهمني بـ”الترفّع″ عن قراءة ما يكتب في الصحف العربية، بل اتهمني آخر بأنني أجهل حتى أسماء الكتّاب العرب المرموقين، وأكتب بلغة “مترجمة” وليست عربية سليمة! مثل تلك “الإدانات” وفق الزملاء المهتمين بما كتبت، تدفعني إلى تأكيد عدم إفراطي بالتفاؤل أكثر مما ينبغي كي أطالب كتّاب الأعمدة الصحافية العرب بأن يجعلوا من اللغة بنك أحلامهم، وتبعد عني أيضا خضوعي المطلق لما ينشر في الصحافة الغربية، يكفي هنا استعارتي لتصريح راسل بيكر المراسل السابق لصحيفة نيويورك تايمز، بعدم وجود صحافيين يغطّون البيت الأبيض اليوم، بل يوجد صحافيون يُغطيهم البيت الأبيض. والتأكيد بأن تلك الحال في أعرق بلدان الحريات الصحافية، فكيف إذا كان الحديث عن بلد عربي! حيال قائمة الزميلة العزيزة لكتّاب أعمدة متميزة في صحف عربية، أتفق معها على غالبية من ذكرتهم، لكنني يمكن أن أُدرج قائمة أطول لكتّاب في الصحف نفسها، أقرب وصف لما يكتبونه هو التكرار الخالي من أي أفكار، إن لم نقل الهزالة، والاستعانة بجمل جاهزة سبق وأن تم تداولها مئات المرات. أما اختياري لمثال لوسي كيلاوي، فلأن الفرصة متاحة بالنسبة لي لتقديمها كنموذج للقارئ العربي، ولنا أن نتخيّل كيف لها بعد أن قضت ربع قرن من النجاح في أرقى الصحف البريطانية، أن تختار لها طريقا آخر في محاولة لإعادة استثمار الطاقة الكامنة في أفكارها والعمل كمُدرسة رياضيات، وبعدها لن تكون مضطرة إلى كتابة مقال أسبوعي على سبيل المثال. ستصنع مُدرسة الرياضيات أفكارها على لغة هادئة كلما تسنى لها ذلك وستطلق لغتها الناضجة في مقال وفق خيارها الذي لا رجعة فيه، وليس لمجرد ملء مساحة محجوزة سلفا لها في الجريدة. وبطبيعة الحال، يصعب أن نطالب أيا من كتّاب الأعمدة العرب بمثل ما تنتجه كيلاوي، فوفق التقويم المفرط بالتفاؤل لم يتسن لصحافي عربي من الفرص والتعليم والاهتمام ما تسنى لهذه الصحافية البريطانية التي اختارت لاحقا أن تعود مُدرسة رياضيات. لديّ مثال آخر يستحق التأمل في تجربته، مثلما يصعب أن نقارن الفرص التي سنحت له، بأفضل ما سنح لأهم وأشهر الكتّاب العرب. لهذا أقول من الصعب على الكتّاب العرب في ظروف المضايقة والخوف والرقيب السياسي الصارم ومصالح وسائل الإعلام وتمويلها أن يبرعوا مثلما برع السير سيمون جينكينز. فهذا الرجل الذي يكتب اليوم مقالين أسبوعيا في صحيفتي الغارديان وإيفينيغ ستاندر، تعد الكتابة بالنسبة إليه نوعا من متعة التأمل واكتشاف العالم، ولهذا يبدو مثالا صالحا، ليس فقط بنوعية ما يكتب، بل بطبيعة الحياة التي يعيشها والتي تُسهّل عليه الكتابة المتميزة، وهي حياة، على بساطتها، لم تتسن لأي من أبرع كتابنا العرب. يستيقظ جينكينز يوميا ويأخذ حزمة الصحف إلى أقرب فندق من منزله في لندن، أو إلى مقهى، منتزه مطل على فضاء مفتوح على حياة مفعمة بالنشاط، يقرأ بذهن رائق لهضم الأفكار ويتأمل ما يحدث في العالم من أجل صياغة ما يكتبه لاحقا. تلك حياة لا تبعث على القلق المخيف وليس القلق الإبداعي، وتُسهّل عملية الكتابة، لأن جينكينز يعيش حياة مطمئنة ويكتب باطمئنان. لذلك تبدو أفكاره بشأن بلداننا العربية أقرب إلى ما نفكر فيه، وليس ما يفكر فيه عادة الصحافي الغربي بطريقة غير مكتملة بشأن أحوالنا. سافر سيمون كثيرا إلى عدد من الدول الإسلامية وفوجئ عندما وجد أن الأنظمة الحاكمة فيها علمانية بدرجة كبيرة رغم المشاعر الدينية على المستوى الشعبي، لكنه يعتقد أن الحسنة التي قدمتها هذه الأنظمة الدكتاتورية هي أنها تمكنت من إبقاء الإسلاميين بعيدا عن الصورة. وكتب في مقال آخر أن الربيع العربي جلب البؤس والفوضى وليس السلام والديمقراطية التي وعد ديفيد كاميرون الليبيين بها. وقال “لقد ألحقنا بالعالم الإسلامي أضرارا تفوق كل ما ألحقه بنا وينبغي أن نتركه يحل مشاكله بنفسه”. لذلك يعتقد أن عيش البلدان العربية تحت أنظمة دكتاتورية لعشرات السنين أفضل بكثير من حكم أحزاب الإسلام السياسي لأيام. كان يعيد نفس فكرته بعد الاعتداءات الإرهابية التي ضربت فرنسا وألمانيا وبريطانيا، بالقول إن داعش سيكون سعيدا عندما يعلن الغرب الطوارئ ويقيّد الحريات ويلاحق المسلمين المعتدلين. وإن كل دين له سلالة من الأصوليين ويجب على الديمقراطية ألا تعطيهم مُكبر صوت، بل هزيمتهم بالاعتدال والعقل. سيمون جينكينز الذي يكتب في السياسة والتاريخ والنقد المعماري، والحاصل على جائزة الصحافة السنوية، وصف ترامب بأنه يتصرف أشبه بمعاون أسامة بن لادن أو شريك له أو ألعوبة بـيده. لا يكتفي هذا الكاتب بمعاينة العالم السياسي، فهو عندما يتألم على موت المكتبات فهذا لا يعني موت الكتب، لذلك وضع “تصورا” لمرحلة ما بعد الرقمية من دون أن يلغي قيم القراءة التقليدية وطقوس زيارة المتاحف ودور العرض والمكتبات. وطالب بعدم الوقوع في خطأ إلغاء القديم من أجل التجربة الحية التي يبثها العصر الرقمي. ثمة عشرات الأسماء في الصحافة العربية كمعادل غير موضوعي، لأفكار سيمون جينكينز، أحدهم – أيتها الزميلة الصحافية العزيزة- يكتب أكثر من مقالين أسبوعيا في أهم الصحف العربية، فيها من التكرار والسرد التاريخي والجمل الجاهزة، والأبيات الشعرية ما يبعث على الانزعاج كفعل مرافق للقراءة!! ومع ذلك حصل على جائزة الصحافة العربية! فيا لسوء حظ القراء العرب مرة أخرى! كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة
مشاركة :