تراجيديا الانشطار بين الغربة والوطن في رواية محمد برادة الجديدة بقلم: حسونة المصباحي

  • 7/3/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

بطل رواية موت مختلف اختار فرنسا ليجسد أحلامه فيها وسعى إلى أن يوجه اهتماماته إلى قضايا المهاجرين القادمين بالخصوص من بلاده بالمغرب.العرب حسونة المصباحي [نُشر في 2017/07/03، العدد: 10680، ص(15)]أحداث سياسية وثقافية واجتماعية مختلفة في روايته الجديدة “موت مختلف” ينتقل بنا الكاتب المغربي محمد برادة إلى باريس، التي يقيم فيها منذ فترة طويلة، لنعيش أحداثا سياسية وثقافية واجتماعية مختلفة ومتعددة. وقد أهدى برادة روايته، الصادرة عن دار الآداب وحديثا عن دار “الفنك” بالدار البيضاء، إلى “العزيز الراحل عثمان بناني، ذكرى رحلتنا إلى دَبْدُو، وذكرى صداقتنا الحميمة”. ولعل في هذا الإهداء الحميمي ما يشي بسر هذه الرواية. لذا يمكن القول إن بطلها منير قد لا يكون مختلفا عن صديق الكاتب الآنف الذكر. فهو مثله ينتسب إلى قرية “دبدو المنغلقة على حدودها”، والتي يعيش أهلها من الزراعة وتربية الماشية. ورغم الفقر، ومصاعب العيش تمكن منير من أن يحصل على شهادة ختم الدروس الثانوية لينطلق بعدها إلى باريس مفعما بالآمال والأحلام، عازما على أن يخوض معركة وجوده مثلما فعل راستينياك، بطل رواية بالزاك “الأب غوريو”. اختار منير، بطل رواية برادة، دراسة الفلسفة. وبعد تخرجه عمل أستاذا وتزوج من فرنسية تدعى كوليت كانت تستطيب أحاديثه عن قريته الفقيرة العارية، وعن طفولته الصعبة وسط الأحراش الوعرة حيث تكاد تنعدم أسباب العيش، وكانت تجد في حماسه ما يدفعها إلى مشاركته مغامراته الكثيرة، وأفكاره الفلسفية والسياسية وغيرها. ورغم ارتباطه الروحي بقريته لم يشأ منير العودة إليها. فقد كان يرغب في أن يجسد أحلامه في فرنسا التي فتنته بثورتها التي أطاحت بالنظام الملكي في عام 1789، وبفلاسفتها التنويريين، وبكتابها وشعرائها المناهضين للاستبداد والفاشية. وبينما كان المغرب غارقا في ظلمات “سنوات الرصاص”، وكانت الأجهزة الأمنية تعذب المعارضين في السجون، كان منير منخرطا في نضالات التنظيمات اليسارية في فرنسا. ولم يتردد في أن يكون من ضمن المشاركين في الثورة الطلابية التي هزت فرنسا في ربيع عام 1968. وكلما طلبت منه زوجته الفرنسية زيارة قريته، أجابها قائلا “ليس الآن… لدينا ما نحققه هنا أولا، وستحين الفرصة لاحقا لأستعيد معك زمني الرومانسي هناك”. وفي مطلع الثمانينات من القرن الماضي، تمكن الاشتراكيون بزعامة فرنسوا ميتران من الفوز في الانتخابات، فانجذب منير وزوجته إليهم، ليعيشا معا “دوامة الاجتماعات والمجادلات”. ومع المناضلين الاشتراكيين يتنقلان بين المدن الصغيرة والكبيرة لاستقطاب أنصار جدد من أصحاب الكفاءات بالخصوص، ولحضور الاحتفالات والمهرجانات التي ينظمها الحزب هنا وهناك. لكن شيئا فشيئا يخف حماسهما النضالي. فقد عاينا أن الحزب الاشتراكي حاد عن الكثير من المبادئ التي كان يدافع عنها قبل أن يصعد إلى السلطة. كما أنه فقد حماسه النضالي الأول، وبات حزبا خاملا كسولا لا يتردد في سلوك سياسة ليبرالية تتعارض مع طموحات مناصريه.رواية محمد برادة تتطرق إلى مشاكل الهجرة، والمصاعب الكثيرة التي يواجهها المهاجرون بين البيئة الجديدة والوطن الأم في هذه الفترة الموسومة بالانكسارات والخيبات، وجدت كوليت في الفلسفة الروحانية الهندية ما خفف من أوجاعها وأزماتها النفسية. أما منير فقد وجه اهتماماته إلى قضايا المهاجرين القادمين بالخصوص من بلاده، ومن بقية البلدان المغاربية. حدث ذلك بعد أن شاهد في عام 1995 فيلم “الكراهية” للمخرج كاسوفيتز. عند خروجه من قاعة العرض شعر بالهلع بعد أن عاين من خلال الفيلم الحياة الصعبة التي يعيشها الشبان المهاجرون في ضواحي باريس. وجميعهم يسكنهم “شعور جارف بالكراهية تجاه فئات المجتمع الغنية، الغاطسة في نعيم الرفاهية، المحمية بالقانون والجيش والبوليس”. وقد شكّل فيلم “الكراهية” حدثا بارزا في حياة منير إذ سمح له باكتشاف الجانب القاتم في الحياة السياسية الفرنسية. وها هو يفتح الحوار مع طلبته في قسم الفلسفة ليتحدث معهم عن مشاكل الهجرة، وعن المصاعب الكثيرة التي يواجهها المهاجرون. وقد كشف له هذا الحوار أن الشبان المهاجرين لا يعرفون معنى كلمة “مستقبل” إذ أن الآفاق أمامهم مسدودة، والأبواب موصدة. بعد انفصاله عن زوجته، ازداد منير إحساسا بالوحدة والغربة، ليكتشف في النهاية أن كل الجهود التي بذلها منذ سنوات شبابه بهدف الانغراس في الهوية الفرنسية، لم تكن مفيدة، بل كانت مضرة ومسيئة له على جميع المستويات. وصورة تلك القرية البعيدة التي رغب في نسيانها، عادت تلاحقه في الليل وفي النهار مثل كابوس مخيف. وعندما عاد اليمين إلى السلطة في عام 2007، لم يعد منير يولي اهتماما كبيرا للسياسة، بل أصبح منشغلا بمشاكله وأزماته الخاصة التي كانت تزداد تعقيدا وحدة كلما ازداد توغلا في المجهول، يسعى بعدها إلى استعادة هويته الحقيقية. لذلك يقرر أن يعود إلى قرية “دبدو” بحثا عن جذوره القديمة، وعن السكينة الروحية. إلاّ أن تلك العودة لن توفر له فرصة الحصول على ما كان يأمل في الحصول عليه، فيسارع بالعودة إلى غربته مُنتظرا “موتا مختلفا”، يكون “ضروريا للذين طال سفرهم وتعبوا”. وهكذا تنتهي رواية محمد برادة بالخيبة المرة تماما مثلما هو حال “أديب” لطه حسين، و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح.

مشاركة :