"طيور النبع" رواية موريتانية عن هجرة المثقف بقلم: حسونة المصباحي

  • 11/11/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

تعجّ رواية طيور النبع بالشخصيات وبأحداث واقعية لكنها غريبة وعجيبة. كما تعجّ بالقصص والحكايات المثيرة والفاتنة لتكون لوحة آسرة لحياة مثقف موريتاني يروي لنا رحلاته المثلثة بين قريته، وأوروبا والمشرق العربي.العرب حسونة المصباحي [نُشر في 2017/11/11، العدد: 10809، ص(14)]رواية بلغة محبوكة بعناية فائقة تعودنا أن نسمع ونقول إن موريتانيا بلد المليون شاعر. فأهلها الذين قدموا إليها من صحراء الشرق البعيد ليستوطنوا صحراء أخرى بين الأطلسي ونهر السنغال، ظلوا يحنون إلى أجدادهم القدماء الذين كانوا يجدون في قوْل الشعر وإنشاده، ما يخفف عنهم وطأة العيش بين كثبان الرمال المتحركة، وتحت عواصف رملية لا تهدأ إلا لكي تعود إلى تعذيبهم من جديد، بقسوة وعنف شديدين. ولكن الموريتاني عبدالله ولد محمدي الذي بدأ حياته صحافيا في جرائد عربية، ثم مراسلا لقنوات تلفزيونية، وأخيرا رجل أعمال كثير التنقل والرحلات بين مختلف بلدان العالم يكذّب ظننا، ويتحفنا برواية بديعة، لا تخلو من لغة محبوكة بعناية فائقة، ومن أسلوب روائي متميز تحضر فيه تأثيرات الحكايات الشفوية، كما يحضر فيه تأثير كتّاب عرب معاصرين، خصوصا السوداني الطيب صالح، الذي لا يزال معلما كبيرا ملهما للعديد من الكتاب المشارقة والمغاربة. قد يكون لبطل رواية عبدالله ولد محمدي “طيور النبع” الصادرة حديثا عن دار “جداول” نفس ملامح كاتبها، عبدالله ولد محمدي الذي اختزن العديد من التجارب من خلال رحلاته المتعددة شرقا وغربا لكي يكتبها، ويؤثثها بشخصيات جعلها قريبة منا، فكما لو أننا عرفناها، وجلسنا إليها هنا وهناك، ومعها تقامسنا الحلو والمر، وسافرنا في الطائرات، وعلى ظهور الإبل، وفي الشاحنات القديمة في دروب صحراوية وعرة، وفي حافلات بطيئة لا تبلـغ محطاتها الأخـيرة إلا بعـد لأي وعناء. تتعدد المحطات والمدن في رواية “طيور النبع”، والعاصمة الإسبانية مدريد هي المحطة الأولى. إليها يأتي بطل الرواية من “النبع”، قريته الصحراوية المحتفظة بعاداتها وتقاليدها البدوية فلا تأبى التخلي عنها رغم زحف وتدفق ما يأتيها من حضارة العصر. وفي مدريد لا يعيش ابن قرية النبع الحياة الصاخبة لمصطفى سعيد، بطل رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، بل هو يكتفي بمراقبة حياة الناس بانتباه شديد محافظا على طهرانيته البدوية. ورغم أنه يملك المال، وينفقه بلا حساب، فإنه يتوخى الحذر دائما، ويلجم رغباته كلما اقتضى الحال ذلك. يقول “يكبحني داعي الوقار. اليوم وقد أكملت الأربعين، لم يعد من اللائق أن أطاوع هوى النفس. صحيح أن ليل مدريد صاخب وجذاب يسهل السقوط في شباكه المغرية، ولكنني اعتدت منذ مدة ليست بالبعيدة أن ألجم هوى النفس الجامحة، وأن أركن إلى عقلي اليقظ وهو يشدني إلى الهدوء والسكينة”. لا يبالغ بطل الرواية في وصف عواطفه حتى عندما يتعلق الأمر بتيريزا البرتغالية التي يبدو أنه أحبها لأنها خدمته وأطاعته تماما مثلما تفعل نساء النبع. وحين يشتد جموح هوى النفس، يعود إلى إشعال “جذوة الصوفية” التي تنام في قلبه “العطشان الحائر على الدوام” ليستعيد طهرانيته . ولا يعود بطل الرواية إلى بلاده، وقريته الصحراوية مرغما مثلما هو حال مصطفى سعيد في رواية الطيب صالح، بل هو يعود لأنه مقتنع بأن الحياة سلسلة من المحطات المتتالية. كل محطة تعكس مصيرا محددا. وعلى الإنسان العاقل الرصين مثله أن يتقبل ذلك كما يتقبل أهله في الصحراء كل ما هو مكتوب على الجبين. كما أنه يعلم أن حياته “كتاب سفر لا تنتهي فصوله، وكل فصل له لون ورائحة وطعم، تتفاوت بين الحلو والمر”. في القرية يحاول أن يستحضر ذكريات طفولته البعيدة فتأتي إليه مشوشة، مضطربة. لكنه يتذكر الجد الذي أتى من شنقيط ليبني مسجدا في العراء. وليصبح ذلك المسجد النواة الأولى لقرية النبع. كما يتذكر عبدالهادي المجذوب، أستاذه الذي علمه القرآن، وحرضه على حفظ الشعر الجاهلي، وبعث في روحه جذوة التصوف التي لن تنطفئ أبدا. لكن بطل الرواية لا يمكث في القرية طويلا، بل سرعان ما يغادرها ليعمل في سفارة بلاده في الكويت. وهناك يلتقي بابن موطنه عبدالرحمن المدمن على القراءة، والمتحمس للقضايا العربية، خصوصا القضية الفلسطينية. كما أنه متعاطف مع حركات يسارية وعمالية. ومعه سيعيش بطل الرواية مغامرات جديدة، وسيتعرف على خفايا عوالم المهاجرين العرب في الكويت. وبرفقة عبدالرحمن ينتقل بطل الرواية إلى الدوحة ليتعرف على دهاليزها، ويصادق سودانيين يدعونه إلى مجالسهم ليستمع إلى الموسيقى بمقامها الخماسي، وشعرها الصوفي. ومن جديد يعود بطل الرواية إلى قريته ليقف على التطورات التي حدثت فيها أثناء غيابه. وها هو يعاين أن بعض مظاهر الحضارة الحديثة قد بدأت تغزو عقول الناس وبيوتهم. مع ذلك ظلت مظاهر الحياة البدوية القديمة واضحة للعيان. فالناس لا يزالون متعلقين بالمجالس التي يحضر فيها الشعر، والأناشيد الدينية، وقصص العشق والهيام. ومرة أخرى تستبد ببطل الرواية حمى السفر فيترك القرية ليغوص بنا في غينيا بحثا عن أبناء النبع الذين هاجروا منذ زمن بعيد فباتوا شبيهين في ذاكرة الناس بشخصيات خيالية أو أسطورية. وفي صقع يكاد يكون مقطوعا عن العالم، يعثر على واحد منهم وقد انسجم تماما مع تقاليد الناس فيها، حتى أنه أصبح واحدا منهم، خصوصا بعد أن تزوّج أربع نساء . تعجّ رواية “طيور النبع” بالشخصيات وبأحداث واقعية لكنها غريبة وعجيبة. كما تعجّ بالقصص والحكايات المثيرة والفاتنة لتكون لوحة آسرة لحياة مثقف موريتاني يروي لنا رحلاته المثلثة بين قريته، وأوروبا والمشرق العربي بطريقة لا تختلف كثيرا عن طريقة الرواة الشعبيين الذين سحروه في طفولته فأراد أن يكون واحدا منهم. وكل هذه الرحلات لها مسحة صوفية وروحية. كل واحدة منها لها تأثير على مصير صاحبها، وعلى أفكاره، وعواطفه تماما مثلما هو الحال بالنسبة إلى الزهاد والمتصوفة الذين يجدون في السفر ما يفتح أذهانهم وقلوبهم وعقولهم على أسرار الوجود الدنيوي والإلهي.

مشاركة :