تأسست دار المدنيات في قرطبة على يد علي بن نافع الملقب ب "زرياب" - اسم لطائر أسود حسن الصوت - كأول مدرسة لتعليم علميّ للموسيقى والغناء وأساليبهما وقواعدهما، منها ولدت المقامات التي ننتشي بها تارةً، وتارةً نكاد لا نستطيع مقاومة خلخلتها لأحزاننا وإثارتها لأشجاننا، زرياب الذي أضاف كل جمال نسمعه اليوم من آلة العود بعد أن زاد فيه وتراً خامساً لطّف نغمته ونسقها، واختار له ريشة بعد أن كان يعزف بالخشب، وكان دائماً ما يبتكر الألحان المدهشة والتي جعلت محبيه يشيعون أنها من وحي الجن!، كما يُعتبر زرياب مؤسس الموشح وأول من أضاف النشيد قبل نقر الموسيقى الذي يسمى "الموّال" في يومنا هذا. عندما نتحدث عن "زرياب" فإننا لابد وأن نذكر أنه كان عامل تواصل بين المشرق والمغرب، إذ نقل أوجه الحياة الحضارية التي ينعم بها أهل المشرق حيث كان يعيش في حاضرة المشرق بغداد إلى حاضرة المغرب والعالم ومحور الثقافة والعلوم قرطبة، فكان أول من أدخل الوجبات ثلاثية الأدوار في أوروبا بعد أن علمهم فن الطبخ وتقاليد الطعام، ثم وضع لهم آنية الزجاج وعلمهم تسريح الشعر وقصه وأهداهم لعبة الشطرنج، وأدخل في أوروبا أيضاً معجون الأسنان ومعطرات الجسم التي لم تتخيل القارة الشقراء وجودها من قبله. داهية القرن التاسع الميلادي لا تخلو كتب التاريخ من إعطائه صفحات تقرّ فيها ما أضافه هذا الرجل الأسطورة إلى العالم حتى يومنا هذا، فتذكر أنه نقل أجمل ما في بغداد حين فرّ هارباً من عملية اغتيال يقودها معلمه إسحاق الموصلي بسبب تفوقه عليه وحظوته عند الخليفة هارون الرشيد، نقل علومه إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا وساهم في ارتقاء الذوق العام، ويصفه المؤرخون بأنه كان يلفت الأنظار في كلامه وجلوسه اللبق، وطعامه الذي يمضغه على مهل ثم يشرب كأسه بكل أناقة!. بجانب هذا كله قد يكون له الفضل في اختراع "تقويم الأسنان" فقد كان عندما يختبر من يتعلم الغناء عنده دون أن يستطيع فتح فاه أو كانت عادته ضم أسنانه عند النطق يأمره أن يضع في فمه قطعة خشب عرضها ثلاثة أصابع حتى ينفرج فكاه!.
مشاركة :