معركة الموصل بدت خارج عالمنا الحديث المدعم بالقانون الدولي الإنساني. كان كل شيء مباحا مقابل استعادة المدينة بوقت أقصر مما كان يتطلبه الالتزام بالقانون الدولي وحماية المدنيين.العرب سلام السعدي [نُشر في 2017/07/15، العدد: 10692، ص(8)] كما ذلك المشهد الذي رافق دخول القوات الأميركية العاصمة العراقية بغداد في العام 2003، وتضمن رفع العلم الأميركي ليغطي وجه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، كان لا بد من مشهد رمزي يرافق إعلان “تحرير” الموصل مطلع الأسبوع الماضي. لكن تنظيم داعش كان قد دمر مسجد النوري ومنارته الحدباء التاريخية والتي أعلن منها زعيمها أبوبكر البغدادي قيام خلافته الإسلامية المزعومة، فحرمت بذلك القوات العراقية من نسج مشهدها الاحتفالي. وإذا كان داعش قد دمر المسجد التاريخي، فقد تكفلت القوات العراقية نفسها والتحالف الدولي بدمار المدينة وتحويلها إلى مجرد ركام. ليست لدى الحكومة العراقية والميليشيات الشيعية، ومن ورائهما إيران، أي مشكلة بدمار المدينة عن بكرة أبيها ومقتل الآلاف من المدنيين فيها مقابل استعادتها. غير أن من ألحق الدمار بصورة رئيسية بالمدينة هو التحالف الدولي المقيد، كما يمكن لنا أن نفترض، بالقانون الدولي وبقوانين الحرب. الحقيقة أن معركة الموصل بدت خارج عالمنا الحديث المدعم بالقانون الدولي الإنساني. كان كل شيء مباحا مقابل استعادة المدينة بوقت أقصر مما كان يتطلبه الالتزام بالقانون الدولي وحماية المدنيين. على سبيل المثال، حيث وجد قناص من تنظيم داعش يؤخر تقدم القوات العراقية في إحدى المناطق، يجري قصف المنطقة بكل أنواع الأسلحة وتحويلها إلى ركام بصرف النظر عن إمكانية وجود مدنيين فيها أو عن ضرورة تقليل الخسائر في البنية التحتية. كان التحالف الدولي يقوم بذلك بصورة رئيسية عبر الطائرات الحربية. بالطبع، لا يمكن للتحالف أن يقوم بذلك إلا في معارك تقع في بلداننا. فلا يمكن أن نتخيل، على سبيل المثال، في حالة قيام إرهابيين بالتحصن في مبنى في إحدى المدن الغربية، وحتى لو لم يحتفظوا فيه برهائن مدنيين، أن يتم قصف المبنى وتحويله إلى ركام. إذ يمنع القانون الاستهتار بحياة الفرد مهما كانت صفته، بل حتى لو كان إرهابيا. دفع هذا الالتزام المطلق بالقانون والذي يلزم باحترام حياة الفرد بعض المشككين في الغرب لطرح ما يعرف بـ”سيناريو القنبلة الموقوتة”. السيناريو هو اختبار فكري افتراضي يطرحه المؤيدون لاستخدام التعذيب في حالات الطوارئ، وذلك بالضد من المنع المطلق لاستخدام التعذيب، النفسي أو الجسدي، لاستخلاص معلومات من المحتجزين بحسب اتفاقيات جنيف. سيناريو القنبلة الموقوتة يفترض وجود قنبلة في إحدى الأبنية المكتظة بالسكان في إحدى المدن الغربية، في حين أن الشخص الذي يعرف مكان القنبلة محتجز لدى القوات الأمنية ويخضع للتحقيق. هنالك وقت قصير يفصل المحققين عن انفجار القنبلة التي ستقتل الكثير من المدنيين. وهنا يطلب هذا السيناريو من المعارضين للتعذيب بصورة مطلقة الإجابة بوضوح حول هل يجب تعذيب ذلك الشخص لانتزاع المعلومات الضرورية ومنع انفجار القنبلة وبالتالي إنقاذ المدنيين والمبنى أم لا؟ بالنسبة إلى القوات العراقية والميليشيات المهاجمة، فهي ليست بحاجة لمثل هذا السيناريو لتبرر تدمير المدنية ذلك أن اتفاقيات حقوق الإنسان وقوانين الحرب هي آخر ما يعنيها. فضلا عن ذلك، تحرر الحروب الأهلية عادة طاقة كامنة من الوحشية والبربرية لا تجد في بلداننا أي قانون أو سلطة مستقلة تردعها. بالنسبة إلى التحالف الدولي، يبدو سيناريو القنبلة الموقوتة مفيدا لتبرير هدم المدنية وقتل الآلاف من المدنيين. وهو ما عملت عليه وسائل الإعلام والدول الغربية طيلة العامين الماضيين، إذ أصبح تنظيم داعش الخطر الأكبر الذي يتهدد البشرية جمعاء والغرب بشكل خاص. استغلت الأعمال الإرهابية في بعض الدول الغربية لتصوير داعش كخطر وجودي يتهدد الغرب. ليس ذلك فقط، بل هي قنبلة موقوتة ينبغي الإسراع في تفكيكها قبل فوات الأوان. هذا ما يمكن أن نفهمه من بناء الحملات الانتخابية في الدول الغربية انطلاقا من مقولة الحرب على الإرهاب. الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان صريحا في حملته الانتخابية إذ دعا لاستهداف عائلات مقاتلي داعش، ويشمل ذلك النساء والأطفال “يجب أن نقضي على عائلاتهم”، قال بثقة وهو يستعرض برنامجه الخاص بمكافحة الإرهاب. أما وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس فقد أطلق على معركة الموصل قبل أشهر توصيف “معركة إبادة”. هذا ما جرى ويجري في معارك التحالف الدولي في العراق. ففي تقرير حديث اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش قوات الأمن العراقية بالتهجير القسري لأسر من يزعم أنهم أعضاء في تنظيم داعش إلى “مخيم إعادة تأهيل” مغلق. وهو ما اعتبرته المنظمة شكلا من أشكال العقاب الجماعي. لا يمكن الجدال في أن التخلص من تنظيم داعش يتطلب خوض معارك عسكرية شديدة الشراسة. ولكن درجة التدمير و”الإرهاب” الذي يجري إلحاقه بالمدن وبالمدنيين الذين يخضعون لسيطرة التنظيم لا تصدق. لا يحدث هذا بدرجة ملحوظة في الحروب الحديثة بعد إقرار قوانين دولية تخص الحرب وحقوق الإنسان، وبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بحيث يمكن فضح تلك الممارسات بسرعة. كان ذلك شائعا قبل تلك التطورات القانونية، وخصوصا في الحرب العالمية الأولى والثانية حيث يخبرنا المؤرخ إريك هوبسباوم أن هدف المتحاربين كان يتمثل في التدمير المبرمج لحياة البشر “الأعداء”، وبأن تلك الحروب كانت بلا حدود ولا تكترث بالثمن الذي يجري دفعه، وهو ما جعلها الأكثر وحشية على مر التاريخ. كاتب فلسطيني سوريسلام السعدي
مشاركة :