التيارات السلفية الجهادية التي اعتنقت أفكار سيد قطب أظهرت لاحقا حالة إحباط ويأس من إمكانية تغيير قيم وسلوك الأمة ما دفعها إلى إباحة قتل المدنيين في مصر والجزائر. العربسلام السعدي [نُشرفي2016/11/05، العدد: 10446، ص(8)] توشك مغامرة تنظيم داعش في مدينة الموصل على الانتهاء. فالمعركة التي انطلقت قبل نحو أسبوعين تحقق تقدما عسكريا متواصلا سوف يفضي إلى سقوط المدينة في نهاية المطاف. يبدو ذلك واضحا بمتابعة تفاصيل المعركة، ولكن أيضا، بمتابعة التسجيل الصوتي لزعيم التنظيم أبي بكر البغدادي. إذ يشير حجم اليأس والإحباط في كلماته إلى أنه يعيش أيامه، أو أسابيعه، الأخيرة كـ“خليفة للمسلمين”، ليشهد انهيار “الخلافة” التي لم تكمل عامها الثالث بعد. في رسالته الصوتية الأخيرة، هاجم أبوبكر البغدادي الجميع من دون استثناء، مكرسا ظاهرة فريدة تخص التنظيم دون سواه من التنظيمات السياسية – العسكرية عبر التاريخ، وهي انعدام وجود تحالفات وعلاقات سياسية مع أي طرف. التنظيم يعادي الجميع وهو أيضا عدو للجميع. انطلاقا من هذا الواقع، هاجم البغدادي “زعماء السنة” في المنطقة خاصا بالذكر كلا من السعودية وتركيا التي وصفها بـ“العلمانية المرتدة”. لم يكتف البغدادي بالهجوم على دول المنطقـة والعـالم المـشاركـة بالتحـالف الـدولي ضد الدولة الإسلامية، بل هاجم أيضا الفصائل الإسلامية العسكرية في مدينة حلب، ومن بينها جبهة النصرة، واصفـا إياهـا بأنها “خائنة ومرتدة”، وتسعى إلى تمثيل مصالح داعميها من “دول الكفر”. لكن المؤشر الأهم على حالة اليأس التام التي يقبع بها أبوبكر البغدادي هو مهاجمة “أهل السنة” بصورة هستيرية متسائلا: “أفي كل مرة لا تعقلون.. استمرأتم الذلة والمهانة”، محاولا حشدهم خلف تنظيمه عبر الترهيب: “ما بقي لكم بعد الله إلا دولة الخلافة”. يحيلنا هذا اليأس والغضب اللذان يحيطان بالبغدادي إلى حالة مشابهة انتابت الإسلامي المصري سيد قطب، والذي يعتبر من أهم وأوائل منظري السلفية الجهادية منذ ستينات القرن العشرين. اعتبر سيد قطب أن المصريين يعيشون في حالة من الجاهلية توجب العمل على إخراجهم منها. لاحقا، أظهرت التيارات السلفية الجهادية التي اعتنقت أفكار سيد قطب حالة إحباط ويأس من إمكانية تغيير قيم وسلوك “الأمة” ما دفعها إلى إباحة قتل المدنيين في مصر والجزائر وتحميلهم مسؤولية الحكومات التي اعتبرت فاسدة وكافرة. وكذلك الأمر مع أبي بكر البغدادي الذي يعبر عن غضبه من “أهل السنة” العاجزين عن تشكيل “الأمة” المسلمة. تلك الأمة، وبحسب قطب، يجب أن تستمد معتقداتها وأنظمتها وقيمها وأخلاقها من المنهج الإسلامي، ولكن وجودها “انقطع منذ انقطاع الحكم بشريعة الله” كما أكد قطب. إعادة تأهيل الأمة والتحرر من الجاهلية يستوجبان أن تكون “الحاكمية العليا في المجتمع لله وحده، متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية”. هكذا حاول البغدادي تحرير السنة في العراق وسوريا من الجاهلية بإقامة الدولة الإسلامية، ولكنه أدرك متأخرا، وهو على أعتاب الهزيمة، أن الحفاظ على الدولة الإسلامية يبدو غير ممكن دون مساندة الأمة التي تغرق بدورها بالجهل. هي حلقة مفرغة وجد البغدادي نفسه في داخلها ليقرأ علينا كلمته الأخيرة المثقلة بالإحباط والخيبة ومرارة الهزيمة. يأتي جزء من المرارة التي تحيط بالبغدادي من اعتقاده الراسخ بأنه قد نجح في بناء دولة الخلافة ولم يتبق له سوى تأمـين وجودهـا والحفاظ عليها. فمنذ البداية، تبنى تنظيم داعش مشروع إقامة “دولة”، وهو ما دفعه إلى خوض صراعات متعددة مع جميع الفصائل العسكرية في المناطق التي سيطر عليها في سوريا والعراق. لم تكن السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي هي الهدف الوحيد للتنظيم، بل أيضا احتكار ممارسة العنف داخل حدود السيطرة، تماما كما تفعل الدولة الحديثة، وشن الحروب على المناطق المجاورة وخصوصا تلك الغنية بالموارد الطبيعية. لطالما كان مفهوم الخلافة الإسلامية حاضرا في أدبيات وخطاب الحركات الإسلامية. في وقت لاحق، حضر مفهوم الدولة الإسلامية بصورة أكبر وخصوصا بعد نشوء الدولة ككيان سياسي يحتكر ممارسة القوة على أراض محددة أولا (القرن السـابع عشر)، ومن ثم على أمة محددة (القرن الثامن عشر والتاسع عشر). ورغم مركزية هذا المفهوم لدى حركات الإسلام السيـاسي، فإنه بقي مبهما إلى حـد بعيد، ولم يجر وضع أي تصور لشكل تحققه المحتمل. وكذلك هو الحال مع تنظيم داعش الذي لم يمتلك أي تصور لإنشاء الخلافة، لكنه، وضمن ظروف استثنائية في نهاية العام 2014، وجد نفسه قد سيطر على مساحات شاسعة من العراق وسوريا قيل إنها تعادل مساحة بريطانيا. لكن تلك المساحة تقلصت خلال العامين الماضيين بصورة كبيرة جردت “الدولة” من نقاط قوتها، لتواجه اليوم معركة الموصل التي يبدو أنها سترسم نهاية مشروع “دولة الخلافة”. كاتب فلسطيني سوري سلام السعدي :: مقالات أخرى لـ سلام السعدي انهيار دولة الخلافة في الموصل, 2016/11/05 حول صعود وهبوط الحماس الأميركي للتدخل العسكري, 2016/10/29 الهيمنة الإيرانية تمر عبر الموصل, 2016/10/23 الانتخابات الأميركية: هل تأخر إقصاء ترامب, 2016/10/15 سوريا: انعطافة تركيا نحو اقتناص الممكن , 2016/10/08 أرشيف الكاتب
مشاركة :