الكاتب الفرنسي حشّد في كتابه قصصاً خياليّة وأخرى شبه واقعية، سرداً مضمّخا بلغة الشّعر ولغةً شبه هذيانيّة، وجمعَ قدرات الموثّق والمؤرشف والسّارد وصاحب التأمّلات.العرب [نُشر في 2017/07/18، العدد: 10695، ص(15)]هواجس جيرار دونرفال المتسلّطة عبّر عنها نثراً وشعراً أبوظبي – أصدر مشروع "كلمة" للترجمة في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، الترجمة العربية لكتاب “بُنيّات اللّهب”، يضمّ قصصاً وأشعاراً للشّاعر والكاتب الفرنسيّ جيرار دونرفال، نقلتها من الفرنسية الكاتبة اللبنانية ماري طوق. ويأتي الكتاب ضمن سلسلة “كلاسيكيّات الأدب الفرنسيّ” التي يشرف عليها الشاعر والأكاديميّ العراقيّ المقيم بباريس كاظم جهاد. وبحسب بيان صحافي يوضح جهاد في مقدمته للكتاب أن دونرفال (1808-1855) كتب هذه النّصوص في فتراتٍ مختلفة، غير أن الحماسة التي استبدت به قبل سنتين من وفاته جعلته يجمع هذه النصوص وفق شكل معماري استطاع من خلاله أن يجمع قصصاً منشورة من قبل، ويصل بين نصوص متباعدة، وحذف وأضاف حتّى اجتمع هذا المتن الذي يجسّد في مختلف مكوّناته مواهبه كلّها، وهواجسه المتسلّطة التي عبّر عنها نثراً وشعراً. ومضى دونرفال بعيداً في تجديد شكل الكتاب الأدبيّ، إذ حشّد في كتابه قصصاً خياليّة وأخرى شبه واقعية، سرداً مضمّخا بلغة الشّعر ولغةً شبه هذيانيّة، وجمعَ قدرات الموثّق والمؤرشف والسّارد وصاحب التأمّلات ولهجة الناقد الأدبيّ، هذا كلّه جمَعه على نحو غير مسبوق، فأضاف إلى قصصه باقة من أشعاره الأخيرة التي تُعدّ من عيون الشعر الفرنسيّ. وبشجاعة متناهية تجاوز دونرفال شعريّة الأنا وأنين الرومنطيقيّين الموجع، وتبحر في فهم مختلف الميثولوجيّات والمدارس الروحانية والطقوس التلقينية، نهلَ منها صيغاً يعبّر بها مداورةً عن مأساته. تماهى مع شخوصٍ عديدة وأرانا جسوراً فذّة بين مختلف كبريات التجارب. وهكذا تأتي أشعاره وقصصه مثل مسرحٍ كبير للمِحَن الروحيّة العالية ورفيع المغامرات الفكرية. وعلى شاكلة قُدامى الشعراء العرب الذين رسموا بأسماء الحبيبات وأسماء مواضع سكناهنّ وما يحيط بها من جبالٍ ومعالم أخرى جغرافية روحية وعاطفية كاملة، بقيت تتردّد في آثار دونرفال أسماء أماكن طفولته ونشأته، كعلامات شغفٍ لا ينضب ومهيِّجات حنينٍ ما له شفاء. ولا يشك جهاد في تمهيد دونرفال للحداثة الأدبية، إذ يصحّ عنه ما قيل عن بودلير من أنّه آخِر الرومانسيين وأوّل المحدثين. وتتمثّل إضافات دونرفال الممهِّدة لهذه الحداثة أوّلاً في هذه الشجاعة وهذا المضاء اللّذين بهما استطاع، بالرّغم من كلّ ما كان يعصف به من آلام، أن يتوغّل في أقصى مكامن الروح وأن يأتي من غزواته الباطنية المتكرّرة بلقايا عجيبة. كما تتلخّص في هذا النقاء الخالص الذي منحه للغته وشكل كتاباته، صفاء بلّوريّ يرفع الكثير من مقاطعه النثرية إلى مصافٍ شعريّ رفيع. وُلد جيرار دونرفال في باريس، قبل وفاة أمّه بعامين في سيليسيا، التي كانت ترافق فيها زوجها الطبيب العسكريّ. وكان يكن لها حبا يقرب من العبادة، وتقف صدمة وفاتها في أصل معاناته. ونشأ الشاعر في منطقة الفالوا الفرنسيّة التي خلّد من بعدُ أغانيها وخرافاتها في نصّ مشهور يضمّه هذا الكتاب. وفي سنّ التاسعة عشرة أقام في إطارٍ ريفيّ آخَر، في سان جرمان آن ليه، قرب باريس، وهناك عشقَ ابنة عمّه صوفي دولاموري، التي سرعان ما تزوّجت سواه. ويؤكّد الباحثون والنقّاد أنّ فقدان معشوقة الصبا بعد فقدان الأمّ المبكّر ربّما كانا يشكّلان النّواة الكبرى لهذا الشعور بالفقد الذي يكتنف عمله كلّه. وضع الشابّ دونرفال لـ”فاوست الأوّل” لغوته ترجمة فرنسيّة أُعجب بها الشاعر الألمانيّ الكبير أيّما إعجاب. وعمل في الصحافة ناقداً، وزار الشرق، ووضع كتابه الشّهير “رحلة إلى الشرق”، ونشر قصصاً عديدة وأشعاراً قليلة ضمِنت له، بنبرتها الفريدة وإعادة ابتكارها للأساطير تعبيراً عن ذاتيّته المعذّبة، مكانة لا تُزحزَح في تاريخ الشعر الفرنسيّ. أمّا ناقلة العمل إلى العربيّة، ماري طوق، فهي كاتبة ومترجمة من لبنان، من مواليد 1963، حصلت على إجازة في الأدب الفرنسيّ من الجامعة اللبنانية عام 1990، وتقيم وتعمل حاليّاً في مجال التعليم في مدينة جبيل بلبنان. نقلت إلى الفرنسية قصائد لعبّاس بيضون وشعراء آخرين، وسيناريوهات للمخرجة الراحلة رندا الشهال، ونشرت عددا من القصص القصيرة والمقالات النقدية. ترجمت إلى العربيّة عدداً من الأعمال الأدبيّة من أهمّها “الجميلات النائمات” لياسوناري كواباتا، و”المرأة العسراء” لبيتر هاندكه، و”خفّة الكائن التي لا تُحتمل” لميلان كونديرا.
مشاركة :