حكايات قديمة| نجيب الريحاني يكتب: «كم أساوى في السوق؟»

  • 7/25/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

قدمت مجلة «الاثنين والدنيا»، مقالًا كتبه نجيب الريحاني بنفسه عن نفسه، تحديدًا فى عدد يونيو عام 1945، وتحدث نجيب في المقال عن بداية ظهور موضة تأمين بعض الفنانين على ما يمتلكونه من موهبة. وجاء في نص المقال: «كثيراً ما أسأل: لماذا لا أفكر في التامين على نفسي؟ إن ديانا دربين تؤمن على صوتها بنصف مليون دولار! وريتا هايورث تؤمن على ساقيها بخمسين ألف جنيه، وكلارك جيبل يؤمن على قوة تأثيره في النساء بثلاثين ألف جنيه! والواقع أن موضة التأمين قد انتشرت في هذه الأيام، حتى إنك ستسمع قريبًا أن كاتبًا سخيفًا قد أمّن بمبلغ كبير على تغفيل قرائه المعجبين، وأن تاجراً جشعاً قد أمن بمليون جنيه على صهينة رجال البوليس، وأن أحد الحانوتية قد أمن بمائة ألف جنيه على حياة طبيب ينافس عزرائيل!! ولكني أعود فأقول لنفسي: إنه يجب ألا أضع نفسي في يوم من الأيام موضع أخذ ورد بين شركات التأمين، فمثلا أنا أعتقد أن حياتي بالنسبة إلى نفسي تساوي مليون جنيه، ولكنها بالنسبة إلى الناس قد لا تساوي «قرش تعريفة»! فإذا مت فلن أقبض المليون جنيه، وإنما سيقبضها الناس الذين يعتقدون أن حياتي لا تساوي قرش تعريفة! ثم قد تجئ شركة التأمين وتكشف على جسمي، فتقول إن رأسي مثلا يساوي نصف ريال، وأن فخذي يساوي 15 قرشًا، وأن أنفي يساوي ثلاثة مليمات.. وأن مجموع أعضاء جسمي لا يساوي أكثر من جنيه إسترليني!. وقد تدخل وزارة التموين في الموضوع فتطالب بان أسعر بحسب تسعيرة وزارة التجارة، أو أقدم للمحاكمة العسكرية بحجة أنني أقدر لحمي بأسعار السوق السوداء! وهكذا ترى أن مصلحتي ومصلحة المستهلكين والجزارين تقضي بأن أؤمن على نفسي «بالقطاعي» لأن أسعار الجملة لا تناسبني مطلقًا! ثم إنني لا أرى معنى للتأمين على عمر لا يضمنه إلا الله، فهل تستطيع شركة أن تضمن لي الحياة ألف سنة مثلا.. إذا كانت هذه الشركة موجودة فأهلا وسهلا وتعالوا غدا لتقبضوا القسط الأول! ولكن الشركات لا تعطيك عمراً، وإنما تقدر عمرك بالمال، مع أني شخصيًا أجد لحظة سعيدة في حياتي تساوي مليون مليون مليون جنيه! وهناك سنين من حياتي لا تساوي «بصلة»! وأما بعد الصحة والعمر الطويل فلا قيمة عندي للمال، ولا للاسم الضخم، ولا للأناقة والشياكة.. فكل هذا كلام فارغ، فإذا ضمنت صحة طيبة، وعمرا طويلا- ألف سنة مثلا- فليكن التأمين بكل ما ملكت يدي من مال وجاكتات وبنطلونات وكرافتات! وقد يقولون لي لماذا لا تؤمن على حواسك الخمس وأعضاء جسمك وحنجرتك؟. وحواسي الخمس لا تساوي شيئا، بل إنني اشعر بالسعادة أحيانا عندما أفقد حواسي الخمس! عندما أرى امرأة قبيحة الخلقة أتمنى لو كنت ضريراً، وعندما اسمع صوتًا مؤلمًا في الراديو آسف لأني لم اخلق أصم، وعندما أذهب لأتناول طعام الغداء في بعض المطاعم وأذوق طعم الفرخة التي استحضرت لي رأسًا من المتحف المصري، أشعر بمرارة لأن الله لم يفقدني حاسة الذوق! وبعد أن ارتفعت أسعار الروائح العطرية ارتفاعًا فاحشًا، أصبحت أتمنى أن تفقد جميع السيدات حاسة الشم بأمر عسكري! ولكن بقى أعضاء جسمي، فكم تساوي في السوق السوداء؟. إن عيني الشمال كانت في الماضي موضع فخري واعتزازي، وكان أصحابي يوهمونني بأن فيها من الجاذبية والسكس أبيل ما «يقلع عيون» جميع الرجال في العالم، وحافظت على عيني الشمال كما يحافظ صراف البنك الأهلي فرع مصر الجديدة على الأموال بعد حادث السرقة المعروف، ولكن حدث بعد ذلك أن أعجبت بعيني مصلحة التنظيم أيضًا، فدخلها تراب المصلحة الذي يملأ الأحياء الوطنية، وذهبت إلى طبيب فأصر على أن اربطها! وظننت عندئذ أنني فقدت رأس مالي في الحياة، ولكن الذي حدث أن الفتاة التي أحبتني لم تحبني إلا عندما رأت عيني المربوطة بالضمادات! وحينئذ فقط أقنعت نفسي بأن عيني لن تدخل التاريخ مثل عين الصيرة وعين شمس وعين جريتا جاربو! وعيني اليمين وحشة، وليس أدل على وحشتها من أنها لم تمرض مطلقًا، لأن الميكروبات لا تتواضع وتدخل العيون غير الجميلة! فعنياي شكلا لا تساويان شيئاً، ولكنهما تساويان عندي موضوعًا أجمل ما في الحياة، فإن عيني تقولان في بعض الأحيان مالا يتشجع فمي على النطق به، إنهما تحاربان من أجلى، وتدافعان عني، وتهجمان وتتقهقران.. وحينًا تنتصران.. وأحيانا تستسلمان! وحنجرتي لا تساوي مليما، فإذا كانت شركة تأمين تدفع لأم كلثوم مليون جنيه ثمنًا لصوتها الساحر، فيجب على الشركة أن تأخذ مني مليون جنيه ثمنًا لصوتي القبيح! وذقني في منتهى الوحاشة، ولا تساوي صرمة قديمة! بل إني ألاحظ أن آخر موضة «لبوز» الحذاء الأمريكاني تشبه ذقني شبهًا غريبًا! حتى فكرت في أن أرفع قضية على شركات الأحذية الأمريكية، لولا أن اكتشفت أن ذقني ليست «ماركة مسجلة»! ويداي جميلتان! ولكن يدي اليمنى ملعونة، فهي تحب دائمًا أن تصرف وتجد لذة في الصرف كاللذة التي تشعر بها يد البخيل عند القبض، وفائدة يدي أني استعملها في الأكل واللمس.. والتحسيس على خلقة الذي يعجبني والذي في بالي! وتستحقان التامين فعلا! ولكن لا قيمة لليد الفاضية في السوق! بقى ساقاي، وشكلهما لا يعجبني، بل إني لا أحب الكشف عليهما، لا نزولا على رغبة الشيخ أبوالعيون، بل لأني أرى أن هناك خطأ في تركيبهما، فقد أخطأ أحد الملائكة في أثناء إعدادي في الورشة، فوضع ساقى معزة بدلا من ساقي، ووضع ساقى للمعزة! وليس هذا غريبًا، فقد رأيت مرة معزة، فما كدت أرى سيقانها حتى أعجبت بالساقين الخلفيتين وشعرت بأنهما ساقاي أنا.. فصحت في المعزة: تبادليني يا بت!؟ وإذا بالمعزة تعدو.. وعندئذ عرفت ان هاتين الساقين هما ساقاي أنا!! وبعد ألا ترى أني لا أساوي كثيرا؟! «الاثنين»: اطلع الأستاذ بديع خيرى على هذا المقال، فعلق عليه بما يأتي: «عقل نجيب هو أثمن ما فيه، ويجب التأمين عليه بنصف مليون جنيه، لأننى أخشى أن يدخل مستشفى المجاذيب من كثرة الشغل واللعب والضحك والبكاء، والفقر والغنى وقراءة الاثنين».

مشاركة :