أول مرة قابلت فيها بيل غيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت» العملاقة، كانت عام 1986 في ولاية أريزونا بالولايات المتحدة... كان يستعد لإلقاء محاضرة في اليوم التالي ويجري عليها بعد التجهيزات والتعديلات، ودار بيننا حديث تعارفي، وذلك في بدايات انطلاق شركته، وكان يتحدث عن آماله وطموحاته مثله مثل أي رجل أعمال حالم.لقائي التالي به كان في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس في سويسرا، وقتها كان أطلق «فكرة» في كتاب مثير للجدل بعنوان: «الطريق القادم أمامنا» يرسم فيه خريطة طريق مستقبلية متصورة عن كيف ستؤثر التقنية الحديثة على عالم الغد، وبعدها قابلته في الرياض وأجريت معه لقاء مطولاً تناولت فيه ما الذي بدأ يتحقق من رؤيته المستقبلية. ولعل أهم ما لفت نظري في الرجل هو شغفه الشديد بفكرة «المستقبل» ورسم خريطة طريق مفصلة للوصول للأهداف الموضوعة. ولم أتمالك نفسي من المقارنة مع ما تربيت على سماعه في المحيط العام في العالم العربي، الذي يتمثل ببساطة في «عمل كل ما يمكن لاستعادة الماضي العظيم»، وهذه فكرة عجيبة أشبه بمن يسير بالسيارة للخلف معتمداً على المرآة الخلفية فقط... لا يرغب في شيء سوى «الرجوع» إلى نقطة البداية، بل هي فكرة، في أقل ما يمكن أن توصف به، جد مدهشة وغريبة، فهي تنصل كامل من الواقع وظروفه، ولا تستوي أبداً مع مجتمع يبلغ أكثر من 60 في المائة منه، من يمكن تصنيفهم بفئة الشباب.هناك «عداوة» مع المستقبل على ما يبدو، وحالة عشق مبالغ فيها مع الماضي، وإلا كيف يمكن لنا أن نفسر المبالغات والتمجيد المستمر لفكرة الماضي «الرائع» و«الزمن الجميل» و«الذين سبقوا» و«زمن الطيبين»؟! وهناك تركيز مستمر على الزرع في الأذهان أن من سبقونا كانوا أفضل وأسعد منا (هل هناك فكر استسلامي وانهزامي أكثر من هذا؟). ويبدو أننا لم نعد نستطيع التفريق الحقيقي والموضوعي بين التوقع المبني على قرارات دقيقة لسلوكيات اجتماعية وبيانات اقتصادية وحراك أممي، والتنجيم والدجل والشعوذة!المجتمعات الغربية تعي تماماً أهمية فكر المستقبليات، وهذا الفكر له نجومه المميزون؛ فهناك آلفين توفلر؛ الأميركي الذي ذاع صيته بشكل عظيم في السبعينات من القرن الميلادي الماضي حينما أصدر كتابه المعروف «صدمة المستقبل»، ثم ألف بعده كتابه الثاني الذي حقق كمية المبيعات والانتشار والتأثير نفسه بعنوان «الموجة الثالثة»، وهناك ريتشارد ناسيت الذي ألف كتاباً مهماً اسمه «التيارات الرئيسية»، وجميع هذه الكتب كان لها كثير من التأثير والتوقع في خريطة العالم المستقبلية في قطاعات التعليم والصحة والتقنية والإعلام والاقتصاد والمواصلات، وأخذت الطروحات المقدمة فيها على محمل الجد. واليوم من يرى نجاح شركات «غوغل» و«آبل» و«أمازون» و«تسلا»، يدرك أنها جميعاً نتاج قراءات مستقبلية تم وضع تصور لها من الخيال المبني على قرارات للاحتياج والحلول المثلى لها. هذا هو الفارق الأساسي بين أوروبا وأميركا... أوروبا اعتمدت على العيش على أنقاض الماضي، وأميركا بنت المستقبل على الفكر الحر الخلاق الإبداعي فتملكت زمام الاقتصاد الجديد.لو صرفنا تفكيرنا بنسبة 50 في المائة فقط على المستقبل من المساحة التي نقضيها في الحديث عن الماضي، لكانت الأمور على قدر مختلف جداً. الأمة المنغمسة في ماضيها لا تتمكن من رؤية الحاضر، وبالتالي لا يمكن أن يتوقع منها صناعة أي تأثير في المستقبل. زياد الرحباني قالها ذات يوم مستخدماً العبارة عنواناً لمسرحية ساخرة... «بالنسبة لبكرة... شو؟». ويبدو أن سؤاله لا يزال قائماً.
مشاركة :