صبري منصور يرسم القرية المصرية بعوالم أسطورية بقلم: ناهد خزام

  • 7/28/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

صبري منصور يرسم القرية المصرية بعوالم أسطورية يعد الفنان التشكيلي المصري صبري منصور واحدا من الفنانين المصريين الذين أخذوا على عاتقهم التصدي لمفهوم الهوية في اللغة البصرية، مشكلا من خلال هذا المفهوم معالم تجربته التي تزاوج بين الواقع والأسطورة.العرب ناهد خزام [نُشر في 2017/07/28، العدد: 10705، ص(17)]رموز ومفردات بلا نهاية القاهرة – احتفت وزارة الثقافة المصرية مؤخرا بالفنان التشكيلي المصري صبري منصور، وذلك بمنحه جائزة الدولة التقديرية لهذا العام عن مجمل أعماله وتجربته الفنية الممتدة منذ منتصف الستينات من القرن الماضي، وهو تكريم مستحق لفنان الهوية المصرية الذي تخرج من معهد الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1964، ليسافر إثر ذلك ضمن بعثة دراسية إلى إسبانيا، حيث أساطين الفن الأوروبي وموطن الحداثة الفنية كجويا وسلفادور دالي وليوناردو دافنشي وبيكاسو وفنانين كثر غيرهم تخرجوا من هذا البلد الذي لم تزل تُحلق في سمائه بعض الرواسب الشاحبة من الثقافة العربية الغابرة. وكانت فترة وجود منصور في إسبانيا فترة تأمل وصفاء ذهن ومشاهدة واستيعاب للفوارق والاختلافات أكثر من كونها فترة إبداع، لم ينتج صبري منصور أعمالا خلال تلك الفترة بقدر ما أطلق عنان فكره وبصيرته للتأمل والتفكير والبحث عن هويته كإنسان، هذه الهوية التي تستقي روافدها من الثقافة والتاريخ والمكان وعادات الناس ومعتقداتهم. كان الخوف من الوقوع في أسر الحياة الغربية الطاغية بنتاجها الثقافي المهول دافعا له للبحث عن هويته، فإرثه الثقافي لا يستهان به، وكان عليه حين العودة البحث عن هذه الروح الضاربة بجذورها في عمق التاريخ. في رسومه الأولى كان كمن يجتر ذكرياته القديمة في قلب المساحة، أو من يحاول البحث في ثنايا وجدانه عن سر وجوده ومخاوفه، حملت أعماله شيئا من تساؤلاته المستمرة والدائمة عن سر الوجود، والموت والحياة، مستعينا في الوقت ذاته بذكريات راسخة في ذاكرته البصرية عن حياة القرية بليلها وضوئها البدائي ورائحة شوارعها وأفنيتها وغيطانها وسواقيها، والحكايات التي كانت تثير خياله عن الجنيات والعفاريت وكل أبطال العوالم الخفية التي كان يسمع عنها.كانت فترة وجود منصور في إسبانيا فترة تأمل ومشاهدة واستيعاب للفوارق والاختلافات أكثر من كونها فترة إبداع أودع صبري منصور كل هذا القلق والاضطراب في لوحة “الزار” التي قدمها في السنة النهائية كمشروع للتخرج، هذه اللوحة التي مثلت لديه مفتاح الدخول إلى عالم جديد وآسر، عالم دخل إليه بخطوات مترددة وشعور طاغ بالدهشة لم يفارقه. يقول صبري منصور “لقد كان حلمي تقديم رؤية فنية مصرية متأثرا في ذلك بالدعوة التي كانت سائدة خلال الستينات من القرن الماضي في مجالات إبداعية أخرى كفن المسرح من خلال دعوة يوسف إدريس وأعمال نجيب سرور ومحمود دياب، وقد كان ذلك حافزا لي على اختيار موضوع رسالتي للماجستير، وهو ‘نحو تصوير مصري معاصر’، محاولا في دراستي مزج عناصر تراثية بملامح حداثية غربية، وتلك كانت رؤية نظرية غير واضحة”. وكانت قناعته التي انتهى إليها أن أي تجربة فنية ذات مستوى ثقافي رفيع يجب أن تتمتع بالخصوصية حتى لو جاءت متواضعة، لأن قيمتها تكمن في أصالتها وفي تقديمها لرؤية تختلف عن رؤى الآخرين، وقد كانت هناك نماذج ناجحة في الفن المصري المعاصر أمثال النحات محمود مختار والمصورين محمود سعيد وراغب عياد وعبدالهادي الجزار وحامد ندا، فكل هؤلاء على اختلاف أساليبهم مهدوا طريقا حاول منصور أن يسلكه. ويقول منصور متذكرا “كان زادي في ذلك الطريق الذي بدأته منذ نهاية الستينات يعتمد على مشاهدات وأحاسيس مترسبة في أغوار النفس، تجسدت في صياغات فنية مستمدة من التراث الفني الزاخر لمصر، مضافة إليها خلاصة ما استطعت هضمه واستيعابه من عناصر ثقافية وفنية مستلهمة". هناك علامات كثيرة بارزة تميز تجربة صبري منصور من اعتماده على الرمز إلى استلهامه لمفردات الحضارة المصرية القديمة، ثم ميله إلى استحضار عوالم ماورائية في أعماله كالجنيات والملائكة وأرواح الأجداد، غير أن أهم ما يميز تجربته هو استلهامه اللافت والفريد للقرية (وهو المولود في إحدى قرى مدينة طنطا في دلتا مصر عام 1943). وحينما اتجه منصور إلى تناول القرية في أعماله رأيناه يعود بذاكرته إلى صور الطفولة الغائمة، ليستعيد كل الانطباعات المترسبة في داخله عن تلك القرية البعيدة. وتدفقت عبر مخيلته كل المخاوف والحكايات المتعلقة بهذا العالم الموازي الذي كان له وقع حقيقي عليه وهو صغير، عالم الخفاء، الليل المسكون بالرهبة، نور القمر وغموضه، أساطير القرية وأحزانها وآمال الناس وأحلامهم. وكان عالم القرية شاسعا، تمتد أشكاله ورموزه ومفرداته بلا نهاية. وتجسدت القرية أمامه بنضارتها وعنفوانها البكر، كالأم والوطن والأرض، بل كانت تستنطق بتفاصيلها الغائمة في ذاكرته أسرار العالم بأسره. كانت القرية هي الواجهة السحرية التي أضاءت تجربة الفنان صبري منصور وما زالت تميزها، تلك التجربة التي وضعته بين زمرة من الفنانين الذين استطاعوا أن ينبشوا بالكثير من الجهد عن ذلك السر الذي يحفظ تماسك ذلك الوطن منذ الآلاف من السنين، عرف صبري منصور ذلك السر، وشكله في لوحاته.

مشاركة :