في كل لوحة من لوحات عشم الله شيء ما يدفعك إلى معاودة التأمل والبحث عن ذلك الرابط الذي يجمع ذلك السياق المدهش، محاولا في الوقت نفسه القبض على مفتاح الدخول عبر ذلك الباب السحري، هذا الباب الذي تعبر من خلاله الفنانة إلى كل هذه الدهاليز والممرات المسكونة بكائنات غرائبية تتطلع إليك كما تتطلع إليها عبر اللوحات. ربما هي وجوهنا التي لا نعرفها، ربما هي خطايانا، وأحلامنا، وأوهامنا، وأفكارنا الشريدة، تجسدت كلها أمامنا على هذا النحو، متخذة لها أشكالا وصيغا لا حصر لها، ولكن من أين جاءت إيفلين عشم الله بكل هذه التفاصيل؟ وكيف نسجت كل هذه العلاقات الغرائبية في ما بينها؟ إنه الخيال بلا شك، هو مصدر الأسطورة وموطن الخرافة، ولكن في حالة عشم الله تبدو هذه الأسطورة بالغة الدلالة، وتشتبك الخرافة مع مخزوننا البصري في حميمية مفرطة، فأعمال الفنانة تعكس قريحتها المتوهجة والتي تستطيع عن طريقها تفكيك منظومة العلاقات والصور النمطية والذهنية للواقع، كي تعيد بناءه من جديد كما يحلو لها. وقد تكون للأمر علاقة بنشأتها في إحدى قرى الدلتا المصرية، كما تقول، حين كانت شغوفة بالنظر إلى كل ما حولها من كائنات حية في بيئة ريفية تتسم بالثراء والتنوع، من هذه القرية تبدأ إيفلين عشم الله في تتبع أصل هذه الكائنات، حين كانت تسرح بخيالها وهي طفلة أمام مشهد عجيب لأسماك تتقاذف على سطح المياه الضحلة لحقول الأرز. الخيال بلا شك، هو مصدر الأسطورة وموطن الخرافة، ولكن في حالة عشم الله تبدو هذه الأسطورة بالغة الدلالة، وتشتبك الخرافة مع مخزوننا البصري في حميمية مفرطة كان اللون يلفت انتباهها في كل شيء: الحشرات والكائنات الصغيرة، مشهد الحقول والفلاحين والقطارات التي تقطع الطريق عبر الحقول في صخب نحو وجهتها اليومية إلى القاهرة، أو ربما يعود الأمر إلى هذه الحكايات و”الحواديت” التي كانت تسمعها وهي صغيرة على لسان جدتها وأمها، كما تقول. كلها أشياء كانت تفتح نوافذ الدهشة على مصراعيها أمام هذه الفتاة، قبل أن تترك القرية آخذة معها كل هذه الذكريات، لم تغب عن ذاكرة إيفلين عشم الله كل تلك التفاصيل حين احترفت الجلوس أمام مساحة الرسم، كانت تتقاذف أمام عينيها رغما عنها، لتستقر في النهاية بين خطوط اللوحة وعجائن اللون، تتبدل الأشكال والملامح, لكنها على كل حال ظلت محتفظة كما هي بدهشة اللقاء الأول. كانت إيفلين عشم الله ترى الوجه الإنساني أكثر إثارة وقدرة على التعبير من أي مشهد طبيعي، حتى ولو كان البحر بكل جبروته واتساعه، فالوجه قناع يخفي وراءه كل تناقضاتنا وقبحنا وضعفنا. وما كل هذه الوجوه الكثيرة التي تطل علينا عبر أعمالها إلا انعكاس لذلك الكيان البشري المزدحم بالتفاصيل. لا تترك الفنانة حيزا فارغا داخل المساحة المرسومة، هي تملأ الفراغ دائما بالتفاصيل والعلاقات المتشابكة بين العناصر والمفردات، غير أن كل هذا التشابك والتجاور بين العناصر والمساحات في لوحاتها لا يصيبك أبدا بالملل، ولا يقلل من نشوتك وأنت تتأمل كل تفصيلة على حدة، ولا تيأس من محاولة تتبع سياقها أو فك طلاسمها، ولا تجد مفرا من مد جسور التواصل مع هذه الكائنات التي تتقاذف أمامك على سطح العمل، فهي حقا دميمة، لكنها في الحقيقة طيبة، كما وصفها الناقد المصري الراحل حسين بيكار.
مشاركة :