هل تعتقد أن المساواة والعدالة وجهان لعملة واحدة؟ المساواة تقول إنك إذا كنت موظفاً نشيطاً مجتهداً فستحصل أنت وزميلك الخامل على نفس الراتب. فأين العدالة عندما يكون جميع الموظفين متساوين بالمكافأة؟ هذا يذكرنا بالمثل الشعبي: «اللي بعينه الناس سواء ما لعلته دواء». دراسات عديدة ومنها دراسة عالمة النفس كريستينا ستارمانز، أوضحت أن الناس إذا وجدوا أنهم جميعاً متساوون، سيشعر المجتهدون منهم بالغضب إذا نال المقصر مكافأة مثلهم. تقول ستارمانز: «ما يشغل الناس ويؤرقهم هو غياب العدالة.. يجدر بنا أن نحول الأنظار عن قضية عدم المساواة، وأن تتصدر قضايا أخرى أحاديثنا وأبحاثنا، مثل غياب العدالة، والفقر، وهما سببان رئيسيان للمشكلات..». لكن، مهلاً، لا نخدع أنفسنا، فأكبر مشكلة تواجه أغلب مجتمعات عالم اليوم هي عدم المساواة في الدخل وتوزيع الثروة باتفاق أكثر علماء الاجتماع. الفجوة تتسع بين الأثرياء ومحدودي الدخل في أغلب بلدان العالم؛ والطبقة الوسطى تتقلص فجزء صغير منها يتجه للأعلى برواتب فلكية، وأجزاء أكبر تتجه للأسفل، مما يمثل خطراً على الاستقرار الاجتماعي. لنأخذ صورة العالم الحالية في عدم المساواة: ثروة 1 % من أثرى أثرياء العالم تفوق ثروات العالم بأكمله، (تقرير أوكسفام)، بما لم يحصل إطلاقاً في القرن العشرين. لقد تغير هيكل الاقتصاد السياسي في العالم على مدى الأربعين عاماً الماضية من رفع القيود، والخصخصة، والسرية المالية، والقدرة الكبيرة للأغنياء لاستخدام نفوذهم لزيادة تركيز ثرواتهم. النتيجة أن أرباح أصحاب رؤوس الأموال شهدت صعوداً متنامياً أسرع كثيراً من معدل نمو الاقتصاد. كما أن الفجوة بين كبار المديرين وبقية الموظفين تتسع، فمعدل رواتب مدراء كبرى الشركات تزايد من أضعاف رواتب الموظفين العاديين إلى مئات الأضعاف خلال السنوات الأخيرة.. هذه الظاهرة بدأت في أمريكا ثم امتدت لأغلب بلدان العالم، وصارت نسبة الدخل الوطني المخصصة للموظفين العاديين تتراجع فيما تتصاعد لكبار المديرين في معظم البلدان الغنية والبلدان النامية. لكن الباحثين المدافعين عن الوضع الراهن للعولمة الرأسمالية يدَّعون أن ذلك مجرد إثارة للقلق مبالغ فيها، فعدد الفقراء ينخفض تدريجياً مما يدل على أن المستوى المعيشي للناس يتحسن. أما الزيادة الكبيرة لرواتب مدراء الشركات فهي لا تعني أن بقية الموظفين تقل رواتبهم بل تزيد زيادة طفيفة، ووضعهم يتحسن. إذن، المشكلة ليست في عدم المساواة، بل في غياب العدالة. حسناً، ما الفرق بين غياب العدالة وعدم المساواة؟ غياب العدالة يتمثل في عدم تطبيق القانون على الجميع، ومحاباة البعض وظلم آخرين على حساب الجدارة والمنافسة العادلة وتكافؤ الفرص، أما عدم المساواة في توزيع الدخل والأجور فهو ليس أحد مظاهر غياب العدالة؛ بل أن المساواة في الدخل أو المكافأة بين المجتهد والمقصر، وبين المبدع والخامل والنشيط والكسول.. منافية للعدالة. الدكتور بجامعة ييل مارك شيسكين، لخَّص نتائج دراسة بعنوان «لماذا يفضل الناس التفاوت الاجتماعي»، قائلاً: «يفضل الناس بشكل عام التفاوت الاجتماعي تحت مظلة سياسات عادلة، على المساواة تحت مظلة سياسات جائرة».. ويذكرني ذلك بمثل شعبي قديم لدينا «ظلم بالسوية، عدل بالرعية». لكن حتى في هذه الحالة، إذا كان الناس متساوين اجتماعياً، وتحكمهم سياسات جائرة، فسيصبح المجتمع عرضة للانهيار، حسبما يرى نيكولاس بلوم، أستاذ الاقتصاد بجامعة ستانفورد. لماذا يخلط الناس بين المساواة والعدالة؟ بسبب صعوبة الفصل بين مفهوم المساواة أمام القانون (عدالة) والمساواة بشكل عام.. وخلط آخر بين مفهوم تكافؤ الفرص (وهو جزء أساسي للعدالة) ومفهوم المساواة في الدخل. فلتحقيق العدالة يجب أن تكون الفرص متكافئة للجميع بغض النظر عن الفروق الاجتماعية والعرقية والثقافية، وتوزيع المكافآت حسب الجدارة والاستحقاق.. أي التوزيع بعدالة وليس بالتساوي. ومن هنا، إذا كانت العدالة هي المعيار الأساسي وليس المساواة، فالأفضل التركيز على حقوق الفئات المتضررة التي لم تتحسن أوضاعها المعيشية بسبب غياب العدالة. لذا يرى أستاذ الفلسفة بجامعة بيرنستون هاري فرانكفورت، في كتابه «نظرة على عدم المساواة»، بأن «الالتزام الأخلاقي ينبغي أن يتمثل في القضاء على الفقر، وليس تحقيق المساواة، والسعي الجاد من أجل توفير السبل التي تكفل الحياة الكريمة للجميع». (برايان لوفكين، بي بي سي). مهما قيل في التفريق بين العدالة والمساواة، فالمشكلة أن عدم المساواة بالأجور على المستوى العالمي ليس مرتبطاً بالجدارة كما تؤكد دراسة من جامعة إكسفورد (لوسيان ببشوك ويانيف جرنشتاين) التي وجدت أنه لا أداء مدراء الشركات الكبرى ولا حجمها ولا إنتاجها هو السبب، فتصاعد أجور المدراء من عام 1993 إلى 2003 كان بعيداً عن الزيادة في حجم الشركة، أو الأداء، أو تصنيف الصناعة التي بقيت على حالها بينما زادت رواتب المدراء للضعف! وأياً كان تعريف العدالة والمساواة، فظاهرة زيادة الفجوة بين الأثرياء والآخرين تتأسس مع غياب العدالة، فالمكافآت الضخمة التي يتمتع بها عدد ضئيل من مديري كبرى الشركات نادراً ما تمثل نجاحاً لهذه الشركات، أو كفاءة من يتربعون على القمم الإدارية، مما يقوض قيم الجدارة في العمل.. إن عدم المساواة قضية تنتظر تحقيق العدالة.
مشاركة :