عرض نقدي: انتصار سينمائي متميز لفيلم "دنكيرك"

  • 8/1/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

المخرج كريستوفر نولان في فيلمه الجديد "دنكيرك" من الوصول إلى حد الكمال فيما يتعلق باستخدام نهجٍ سينمائي اتبعه سابقاً في فيلمه "إنقاذ الجندي رايان"، جعل مشاهديه وكأنهم جزءٌ من العمل؛ كما تقول الناقدة السينمائية كارين جيمس. يبدو دور الممثل مارك رايلانس محورياً للغاية في فيلم "دنكيرك"، وهو عمل سينمائي حربي أخرجه ببراعة شديدة كريستوفر نولان. فبقميصه ورابطة عنقه وكنزته، يظهر "رايلانس" في العمل بكل التفاصيل التي تميز رجلاً إنجليزياً تقليدياً، ليجسد شخصية مدني يتنقل بقاربه الصغير بين ضفتي القنال الإنجليزي، آملاً في أن يعيد على متنه الجنود الإنجليز الذين تقطعت بهم السبل، إلى الوطن. ويختار نولان لهذا الرجل ذي السمت الهادئ موضعاً هو ذاته الذي يضع فيه جمهوره، أي في خضم حركة دائبة لا تهدأ، خلال إحدى أشهر معارك الحرب العالمية الثانية، تلك التي جرت عام 1940 حينما حوصر نحو 400 ألف جندي بريطاني وفرنسي من جانب قوات العدو على شاطئ فرنسي، ليصبح القنال الإنجليزي الطريق الوحيد المتاح أمامهم للهرب. ويبدو ما حدث في فيلم "دنكيرك" متماشياً مع الدرب الذي سارت عليه أفضل الأفلام التي تناولت معارك حربية وأُنتِجت خلال الأعوام العشرين الماضية من وضع مشاهديها في قلب المعركة، بما في ذلك أعمالٌ مثل "إنقاذ الجندي رايان" و"هاكسو ريدج". ولذا فـ"نولان" لم يعد اختراع هذا النهج - الذي يقوم على وضع المتفرجين في قلب الأحداث - لكنه دنا من درجة الكمال في توظيفه سينمائياً. وباستخدام اللغة السينمائية ذات الطابع البصري، يصمم نولان المشاهد الافتتاحية من "دنكيرك" على نحوٍ يدعونا إلى الاندماج فيه. ففيها نرى عدداً كبيراً من الجنود، وهم يسيرون مولين ظهورهم للكاميرات، في شارعٍ خالٍ ببلدة دنكيرك الفرنسية. ويترك نولان مسافةً بين الجنود والكاميرا، لكي يتسنى لنا نحن كمشاهدين أن نحتل هذه المساحة وندلف من خلالها إلى الأحداث، لنشعر كما لو كنا نلاحق هؤلاء الجنود في مسيرتهم. ومن شأن مشاهدة العمل على الشاشات الضخمة الموجودة في دور السينما تسهيل الاندماج في عالمه. وفي هذا الفيلم يُحدِثُ توظيف تقنية "آيماكس" لتسجيل ملفات الأفلام السينمائية، أثراً رائعاً بشكل يندر أن نراه على الشاشة. والمعروف أن اللجوء إلى هذه التقنية يُمكِنُ صناع الأفلام من تسجيل وعرض الصور بشكل أكبر كثيراً في الحجم والدقة من التقنيات السينمائية التقليدية. وبفضل تصوير مشاهد "دنكيرك" بصيغتيّ "آيماكس" و"70 ميلليمتراً"، سيتسنى عرضه في دور السينما في صورة ملفات سينمائية مختلفة. حقيقة ما حدث في "دنكيرك"خلال الحرب العالمية الثانية بالعودة إلى الأحداث، سنجد أن إطلاق نار مفاجئاً يدفع مجموعة من الجنود المحاصرين في "دنكيرك" إلى الفرار هنا وهناك، ليصل أحدهم وهو جنديٌ شابٌ يُدعى تومي (يجسد دوره فيون وايتهيد) إلى الشاطئ ليجده مكتظاً بالجنود الذين ينتظرون القفز إلى قوارب الإنقاذ قليلة العدد للغاية. واعتباراً من هذا المشهد، يُسارع نولان بإرساء أسس ثلاثة خطوط سينمائية مختلفة، بل وثلاثة أطر زمنية متباينة، تتفاعل معاً وتتخلل أحداث العمل برشاقة. أحد هذه الخطوط يتمثل في المشاهد التي تجري على البر، تحديداً على شاطئ دنكيرك، وتستمر لنحو أسبوع. ومن بين الشخصيات التي تظهر فيها - وكلها خيالية وليست واقعية بالمناسبة - ضابطٌ كبير في سلاح البحرية البريطاني، يُقدم في العمل باسم كينيث براناه. ويبدو هذا الرجل أكثر الشخصيات التقليدية في الفيلم، إذ يراوده القلق طيلة الوقت بشأن كيفية إعادة رجاله إلى وطنهم. أما تومي، هذا الجندي البريء والخائف في آن واحد، فيلتقي جندياً فرنسياً ليحملا معاً - وعلى نحوٍ مستميت يائس - محفةً يتمدد عليها جريح، وينقلانها باتجاه الشاطئ. المفارقة أن ذلك ليس عملاً نبيلاً كما يبدو في الظاهر، فهما يتظاهران بأنهما من عناصر الفرق الطبية، على أمل أن يتمكنا من الصعود على متن سفينة، للنجاة بحياتهما. مصدر الصورةFRANCOIS LO PRESTI/AFP/Getty ImagesImage caption المخرج كريستوفر نولان مع المنتجة البريطانية إيما توماس ومشهدٌ مثل هذا يميز على الفور بين "دنكيرك" وسواه من الأفلام الحربية الأخرى ذات الحبكة الأكثر بساطة، والتي يكون العماد الرئيسي لأحداثها "الأعمال البطولية" للشخصيات المشاركة فيها. في الوقت نفسه تشكل الشخصية التي يجسدها رايلانس، ويُدعى صاحبها دوسون، إحدى الشخصيات التي تظهر في المشاهد التي تدور في البحر وتستمر يوماً كاملاً. وخلال هذا اليوم، نرى مئات القوارب الصغيرة وقد اسْتُدعيت لتقديم المساعدة في نقل الجنود المحاصرين. ونرى على متن قارب دوسون نجله الشاب وصديقاً له في سن المراهقة. وفي وقت لاحق ينضم إلى هذه المجموعة، الممثل كيليان مورفي الذي يقوم بدور جنديٍ أُنقِذ من عرض البحر، ولم يتعاف بعد من أثر الصدمة. لكن تعدد هذه الشخصيات لا ينفي أن رايلانس هو الذي يُكسب الفيلم ثقله العاطفي بوجهه المنهك السَئِم الذي تخطه التجاعيد، ويبدو في الوقت نفسه مُفعماً بالحزم والإصرار والدماثة غير المبالغ فيها. لذا يمكن القول إن رايلانس يضفي عمقاً على المشاهد تتجاوز الجُمل الحوارية المكتوبة في السيناريو. حربٌ على حقيقتها من دون رتوش ورغم أن نولان سبق وأن قال إن القصة الملهمة لـ"دنكيرك"، والتي تتعلق بالقوارب الصغيرة التي نقلت الجنود المحاصرين إلى مأمنهم، هي شيءٌ تربى عليه - كغيره من الكثير من البريطانيين -بطابعه الذي يجعله أقرب إلى "القصص الخرافية". وبالرغم من أن ما يُعرف بـ"روح دنكيرك" هو أمرٌ ربما يألفه البريطانيون أكثر من أي شعب آخر في العالم. فإن ذلك لا يقف حجر عثرة على طريق وصول هذا العمل إلى قلوب مشاهديه. فالفيلم ينقل رسالته على نحوٍ مؤثر وبلغة إنسانيةٍ محضة، بفضل ما يقوم به مخرجه من تجريدٍ للأسطورة، من كل ما يحيط بها من زخارف، لكي يكشف عما يكمن في داخلها من واقعٍ معقد وأشكالٍ مختلفة كثيرة من التحلي بروح البطولة، والشعور بالخوف كذلك. عرض نقدي لفيلم "الحرب من أجل كوكب القردة" أما المعركة الجوية التي تغطي نحو ساعة من أحداث الفيلم، فتشهد مشاركة ممثلين من قبيل توم هاردي وجاك لودين، اللذين يجسدان شخصيتيّ طياريّن مقاتليّن في السلاح الجوي الملكي البريطاني. وفي أحد المشاهد، يُصاب عداد الوقود في مقاتلة هاردي بعطب، فلا يجد الأخير مفراً من الاعتماد على الاتصال اللاسلكي مع لودين، لكي يتسنى له تخمين ما إذا كان سيصبح لديه وقودٌ كافٍ للعودة بمقاتلته من طراز "سبيتفاير" إلى الوطن أم لا. وفي خضم هذه الأحداث، نجد أن دوسون، هو من يستخدم ذاك الوصف البارع "بطٌ قابع من دون حراك"، لوصف القوات المحاصرة في دنكيرك، والسفن التي تنقلها من على الشاطئ، لتوضيح مدى كون هؤلاء الجنود والقوارب عرضة للخطر في ضوء أنهم لا يحظون بأي حماية. وبالفعل، نجد أن كل شخصيات الفيلم تتعرض لقصف جوي، ويُصوّر لنا نولان عبر العمل مدى الهشاشة الشديدة التي يتسم بها وضعهم، والخطورة التي يتعرضون إليها. فلإتقاء شر الطلقات النارية التي تنهمر فوق رؤوسهم، لا يجد الجنود المتناثرون على الشاطئ بوسعهم تقريباً سوى الاستلقاء على الرمال ووجوههم إلى أسفل في محاولة يائسة منهم للنجاة بحياتهم. وتحت القصف تغرق القوارب، صغيرةً كانت أم كبيرة. ويبدو المشهد مأساويا عندما نرى هيكل سفينة وقد بدأت المياه تملؤه، لينهمك من كانوا على متنها - ممن كان يُفترض أنهم أُنقِذوا بالفعل - في محاولات محمومة من أجل النجاة بحياتهم. مصدر الصورةFRANCOIS LO PRESTI/AFP/Getty ImagesImage caption صورة جماعية لأبطال فيلم دنكيرك أحد هؤلاء جنديٌ نافد الصبر، يجسد دوره مغني البوب هاري ستايلز. ورغم أن لـ"ستايلز" حضوراً مفعماً بالحيوية على الشاشة، فإن على عشاقه كمغنٍ إدراك أنه لا يلعب سوى دورٍ صغير في الفيلم ككل. وفي ظل القلة النسبية للجُمل الحوارية في العمل وتعمد صناعه تقديم شخصياته دون تعريفنا بتاريخهم، يفسح نولان المجال للأحداث لكي يكون لها الدور الأكثر فعالية في توجيه مسار القصة وخلق أجواء من التشويق. فهو يجعل المشاهدين يشعرون بوطأة "الخوف المرضي من الأماكن المغلقة" الذي ربما يكون قد أصاب من حُبِسوا في داخل هيكل السفينة التي تعرضت للقصف. كما يُشعرهم كذلك بالخطر المحدق بشدة الذي يتعرض له من هم في العراء خلال غارة جوية تنفذها المقاتلات الألمانية. بجانب ذلك، يشهد العمل إنجازاً تقنياً غير عادي، فالكاميرات الضخمة التي تعمل بتقنية "آيماكس" تُوضع على متن الطائرات، كما أن صناع الفيلم لا يلجؤون إلى الكمبيوتر لإعداد خدعٍ سينمائية، سوى في عددٍ محدودٍ للغاية من المشاهد. الأكثر أهمية في هذا الشأن، أن هذا الأسلوب السينمائي لم يسحب البساط قط - رغم ذلك - من أحداث الفيلم نفسه، ولم يصرف الانتباه عنها، ليستحوذ هو على الاهتمام. فالمشاهدون ينجذبون إلى تلك الدوامة الفوضوية من الأحداث التي يشهدها العمل، الذي يتميز بأن لكلٍ مشهد من مشاهده مغزى ووقعاً. إحداها يُصور جندياً يمضي إلى داخل المياه بثيابه كاملة، من دون أن تتضح لنا في أي وقت الأسباب التي حدت به للقيام بذلك. كما نرى في مشهد آخر جثثاً طافية تصل إلى الشاطئ مع انحسار المد. فيلم واندر وومان في طريقه لـ"تحطيم الأرقام القياسية لشباك التذاكر" أما الموسيقى التصويرية، التي كانت مضبوطة النبرة والإيقاع ببراعة، والتي وضعها هانس تسيمر، فتتمثل في مزيجٍ مُعدٍ برهافة حس وحذق من الموسيقى والمؤثرات الصوتية، يربط بإحكام بين أجزاء الفيلم، ويُسهم في خلق أجواء التشويق والتوتر فيه، دون استغلالٍ للانفعالات والمشاعر، على الشاكلة التي تُحدِثها الموسيقى والأغنيات ذات النبرة الزاعقة النمطية، في الأفلام الحربية التي تتسم بطابعٍ عفا عليه الزمن. وعندما نصل إلى نهاية الأحداث الدرامية المكثفة التي يتضمنها "دنكيرك"، يبلغ العمل نهايته المفعمة بالمشاعر، على خلفيةٍ موسيقيةٍ يعلو أخيراً صوت نغماتها، من خلال "تيمةٍ" مستوحاة من الموسيقي الإنجليزي إدوارد إلغار. ورغم أن نولان أثبت في أفلامه السابقة قدراته الفذة على تقديم أعمالٍ سريعة الإيقاع وعامرة بمشاهد الحركة، حتى وإن كان ذلك قد جرى عبر أفلامٍ مختلفة بشدة عن فيلمنا هذا مثل فيلميّ "فارس الظلام" و"العظمة"، فإنه لا يبدو بالبراعة نفسها ككاتبٍ لسيناريو "دنكيرك". خبراء ينتقدون فيلم "المومياء" لتوم كروز فمع أن من بين نقاط قوة الفيلم ابتعاده الواضح عن الإغراق في المشاعر، مما يجعله يتميز عن فيلم كـ"إنقاذ الجندي رايان" الذي انجرف بشكلٍ ليس بالقليل صوب اللعب على أوتار العواطف والانفعالات، فإن "دنكيرك" يبدو فاتراً أكثر من اللازم من هذه الوجهة، ويعتمد على العقل بقدر أكبر مما كان يُفترض أن يكون عليه. فباستثناء شخصية دوسون، تجعلنا الأحداث مرتبطين بأبطال العمل بفعل أدوارهم في القصة فحسب، من دون أن تتولد خلال الفيلم أي رابطة حسية أو عميقة بيننا وبينهم. غير أن هذا المأخذ الطفيف لا يقوض ما يتسم به "دنكيرك" من روعة وإتقان. فعلى مدار 106 دقائق تمر من دون أن نشعر بها تقريباً، تشكل مشاهدة الفيلم تجربة مذهلة ذات طابع أصيل غير زائف، تغمر مشاهديها بأجوائها وتحيطهم بها حتى يصبحوا جزءاً منها، وذلك على نحوٍ لم تنجح فيه سوى أفلام قليلة للغاية من قبل. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Culture .

مشاركة :