عبقرية الحجة خديجة المغربية..

  • 8/17/2013
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

.. لن أنسى تلك العائلة المغربية ما حييت. في مدينة جميلة بالمغرب اشتهرت بالأسماك وبالفوسفات هي مدينة أسفي. وفي أسفي أضعنا الطريق لفندقنا الذي حجزنا فيه، فسألنا عائلة من أم وابنها الشاب وفتاة حيّية ومحجبّة وتحمل معها كتبا جامعية. وكان معي رفيقُ عمري وحلي وترحالي ابن خالي صلاح السحيمي - رحمه الله - الذي توفى قبل سنتين بمرض الرحمة. العائلة قرروا أن يركبوا معنا بالسيارة على أساس أنهم سيأخذوننا بأنفسهم للفندق، ولكنهم قادونا بطرقٍ متداخلة في أحياءٍ مزدحمة، حتى وصلنا منزلهم، فضحكت في سري قائلا: يا لدهاء هذه العائلة استغفلونا حتى نوصلهم لمنزلهم مجانا.. وطاب الأمرُ على قلبي واستظرفت ذلك، ثم ضحك صلاح بصوتٍ عال، وأنا صرتُ أتشقلب من الضحك.. أحببناهم واستلطفنا استغلالهم لنا. ولكن مع كل ذاك الاستظراف كان ظننا سيئا. قالت الأم: عيب أننا نأخذكم لفندقٍ وأنتم ضيوف، وانظر أننا لتونا خارجين من السوق وابتضعنا لوازم الغداء وهو يكفينا جميعا، وقالت: يا منير – تعني ابنها الشاب - امسك بهم وأدخلهم حتى ولو استدعيت الدّرَك – والدرك هم رجالُ الشرطة هناك - لم نحتج للدرَك فنحن مسالمون طيّعون، والحقيقة جائعون، وحصل لنا طهو منزلي فمن يعاف؟ طبخت لنا الحَجّة خديجة لحما بمرق البرقوق الأسود.. يا سلام. لم أذق لحما مخلوطا بمرقة البرقوق مع الخضار بطاجن فخاري كذاك اللحم الذي ذقناه عند الحجة خديجة. ثم لزّمت علينا أن نمكث لبعد العصر لتأخذنا للفندق، ووعدتنا بأكلةٍ أخرى. في العصر، أعدت طقسا مهيبا وجماليا للشاي المغربي مع النعناع الحادق، وقطع حلوى مغربية طازجة من فرنها. مرة ثانية هل أعيد جملة الله لم أذق.. لا فهمكم كفاية. وصلنا الفندق، وجلست معنا بالبهو الحجة خديجة والفتاة الجامعية رشيدة والشاب البهي منير ثم فاتحتنا الحجّة قائلة: انتوا من الإمارات؟ وفات علينا أن نخبرها أننا من السعودية فالأكلتان الطيبتان غيبتا وعي البديهة عندنا. بدا عليها شيء من خيبة الأمل.. ثم تابعت: أنا كنت أعتقد أنكم من الإمارات، لكن مرحبا بإخوانا السعوديين. فسألتها لمَ كانت تود لو كنا من الإمارات؟ فردت: كان بودي أن أفتح مطعما مغربيا بأكلات منطقة أسفي حيث إنها من أشهى الوجبات، وبنتي هذه رشيدة تدرس الطبخ في كلية الإعداد الضيافي (يعني ما نسميه إدارة المطاعم والفنادق)، وابني هذا منير محاسب متخرج في الجامعة، وعندي مبلغ من المال جمعته من معاش زوجي - رحمه الله - ومن بيع عقار لنا في وزان حيث نشأتنا الأولى. وفي الإمارات الأمور ستنجح معي بعون الله. لم أردّ عليها، لكني في المساء هاتفت صديقا إماراتيا عرفته في الطائرة وسبق أن كتبت عنه لما كنت أكتب مقالات بعنوان أصدقاء الفضاء وكان اختصاصه بناء واستملاك المناجع والفنادق الصغيرة، ولما عرضت عليه موضوع الحجة خديجة، فرح، ورد: الله يبشرك بالخير أحتاج جدا مطعما مغربيا وبمذاق قوي وعائلي. ستكون حققت حلمي، وقل لهم إني سأتكفل بكل شيء لن يدفعوا درهما واحدا، وسنتقاسم الأرباح. الآن أحرص من سنوات على الذهاب لمطعم الحجة خديجة، بل حضرت زواج رشيدة، وزواج منير في دبي من أخ وأخت مغربيين. أنظر لعبقرية المرأة اللطيفة، عبقرية لم يسجلها أحد، وحتى إن سجلت لن يأبه التاريخ. جمال الدنيا ومتعتها تلك المخترعات والابتكارات الصغيرة التي تكتشفها بنفسك ثم تخلق لك إثارة عالمية جديدة في وجودك. ونحن عائدون من أسفي وجدنا فلاحا في مزرعة شاهقة تطل على الأطلسي الثائر الموج، يحرث أرضه بجملٍ وحمار.. معا. لاحظنا فيما بعد أن حوافر الحمار القوية المخروطية تنغرز في الأرض المحروثة من دون أن يقلب الثرى الذي يؤدّي لخنق الجراثيم النتروجينية المغذية للتربة، ثم الجمل بخفه الناعم كقفاز الحرير يدعك التراب المتفتت ويهيئه للبذار.. يا سلام. عبقرية مرمية صغيرة في طريق ريفي.. ليس إلا. ولكن فعلت كل فعلها في إنارتنا الداخلية. إذا الله رزقني فلوسا سأذهب إلى البندقية بإذن الله. وأنا أطالع فيلما إيطاليا كلاسيكيا عن الفارس الرومانسي كازانوفا، لم يكن قصص العاشق السطوري هي التي لفتتني بل لما استدعى جندولا، ولا يتنبه الناس لذلك لأنه ليس اختراعا كبيرا، بل يدل على عبقرية أهل المهنة من الصناع الصغار الذين يقدمون روائع معادلات الثقل الفيزيائي بالبداهة العقلية، ألم تلاحظوا أن الجندولا قارب مرتفع في آخره بشكل يجعله قبيحا بعض الشيء، ولكن يبرز بديعُ حسنِ صُنْعِه عندما يقفز الملاحُ إلى الجزء الأخير المرتفع والمنحرف بشده من على يساره فوق جزء صمم ليتحمل ثقله بتوازن تام ويوازن ببراعة رشاقة حركة المجداف الطويل.. وانظروا أيضا، فللمجداف حلقة مصممة بدقة لتكون كالمرفق للملاح.. ليه؟ حتى يدور بسهولة في مضائق القنوات بين البيوت. وستقولون؟ براعة لا تتنبه إليها، وإن تنبهت فحياك الله في عالم عقلي مدهش جديد. الجمالُ في رأيي ليس فقط عندما لا يجد المخترع الكبير شيئا يزيده على اختراعه الكبير، ولكن عندما لا يبقى في الاختراعات ما يُختصَر أكثر! الدول والمجتمعات تحتاج بشدة لعقول تديرها بطريقة الاختراعات والابتكارات الصغيرة.. وبشدة!

مشاركة :