حكايات قديمة| قصة أول من قال «هنا القاهرة»: اكتشف أسمهان وانتهى به الحال في محلٍ متواضع

  • 8/21/2017
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

فى عدد يناير عام 1959، ذكرت مجلة «المصور» فى الصفحتين الرابعة والخامسة والأربعين، تقريراً كتبه «عبدالمنعم الجداوي»، تحت عنوان «أول من قال هنا القاهرة!» والذي يحكي قصة إذاعي شهير ارتبط الجميع بصوته لا بشكله، وكان له مكانة كبيرة بين الإذاعيين والنجوم حتى أنه امتلك في فترة من الفترات 8 محطات إذاعية. يعرفه التقرير في البداية بـ «الرجل الذى رأى مشاهير الغناء والطرب يدقون أبوابه ليدخلوا.. منح الشهرة لأسمهان بعد أن غنت له فى التليفون.. وحجب الميكروفون عن فريد الأطرش ليصبح من أعلام العرب.. هل تذكره؟.. إنه «حبشى جرجس» الذى كان يملك 8 محطات إذاعة فى القاهرة منذ ربع قرن من الزمان.. وها نحن نقدمه لك لتعرف»، ثم طرح سؤالا هو: «أين هو الآن؟!». يحكي الإذاعي حبشي جرجس في التقرير قصة الإذاعات الأهلية اليت كان رائدها، كيف بدأت وقطعت مسيرتها وكيف انتهت في أجواء جنائزية لن ينساها أبدا. يقول «حبشي» في بداية حكايته: «فى عام 1923 كانت مصر تفتح أذنيها لإحدى عشرة محطة إذاعة، تقول كل منها: «هنا القاهرة»، وكان عدد أجهزة الراديو في مصر كلها، يزحف بصعوبة نحو 10 آلاف، أو 11 ألفًا، على الأكثر.. كان لكل ألف راديو تقريبًا، محطة إذاعة كاملة». ويضيف «حبشي»: «فى عام 1923 كان الراديو من أهم الأشياء التي يطلب الريفيون الذين يزورون العاصمة، أن يروها كما يرون حديقة الحيوان، وترام الأزهر! وكانت أجهزة الراديو، مبعثرة على (البنادر) وعواصم المديريات والمحافظات وبعض القرى، وظلت محطات الإذاعة الإحدى عشرة ترفع عقيرتها كل صباح ومساء، حتى يوم 29 مايو سنة 1924، ففى هذا اليوم أغلقت محطات الإذاعة أفواهها، وذرفت دمعة أو دمعتين على ماضيها الحافل، ثم أخلت الطريق لمحطة إذاعة «ماركونى» التي احتكرت الأثير، بقرار من وزارة المواصلات». إن مستمعي سنة 1959 – على حد تعبير الإذاعي المخضرم حبشي جرجس- لا يذكرون شيئًا عن محطات الإذاعة الأهلية التي كانت تزحم جو القاهرة، وتتصارع للفوز باستماع الناس إلى «الإعلانات» التي كانت تذيعها! ويستكمل «حبشي»: «نعم.. الإعلانات!.. كان مورد رزقها من الإعلانات، التاجر فلان يعلن عن «أمواس الحلاقة»، والترزي فلان يعلن عن أحدث المودات للسيدات والرجال، وتاجر العطور، ينفح زبائنه عن طريق الإذاعة بآخر روائحه العطرية، وخلال الإعلانات، أو قبلها، أو بعدها، تشنف الإذاعة المسامع باسطوانة لأم كلثوم أو عبدالوهاب أو منيرة المهدية». كان التنافس على أشده بين محطات الإذاعة الأهلية، والمقالب التي تدبرها كل محطة للأخرى كانت أكثر من الإعلانات والاسطوانات التى تذيعها، ومع ذلك، وجدت بين أصحاب المحطات «مصيبتهم» الكبرى، عندما علموا باتجاه نية الحكومة إلى إغلاق محطاتهم، وفتح الأثير كله لـ «ماركوني» وحده. عندئذ اجتمع أصحاب المحطات، وألفوا «اتحادا» جعلوا له محطة إذاعة تسمى «دار اتحاد محطات الإذاعة الأهلية»، ومن هذه الدار، أذاعوا على الجمهور كلماتهم الأخيرة.. قبل الموت! أذاعوا «استعطافات» مؤثرة موجهة إلى الحكومة، فلما فشلت استعطافاتهم، بدأوا يودعون المستمعين، ومطربي الإذاعة ومحدثيها، ويقول مذيعهم، بعد وصلة للشيخ صبح: «والله رايح توحشنا يا شيخ صبح!»، فإذا كان الدور على الشيخ علي محمود، قال المذيع: «والله غيابك يعز علينا يا شيخ علي»، ويجيء دور متحدث كان يسمي نفسه «صادق صديق العائلات»، وهنا يقول المذيع في صوت متهدج: «راحت أيامك يا سي صادق.. يا صديق العائلات». وانتهت مراسيم الوداع على هذا النحو المؤثر، وشيعت محطات الإذاعة الأهلية إلى المقر الأخير، وقبل أن توارى فيه، ألقى  «إسماعيل وهبي» شقيق يوسف وهبي، رثاءً حاراً على روح الإذاعات الأهلية -أو على أرواحها جميعًا- وكان «إسماعيل وهبي»، يملك إحدى هذه المحطات، واختتم الوداع بالقرآن الكريم، وانصرف المشيعون إلى محطة ماركوني. كانت آخر كلمات سمعها الناس من ميكروفون «اتحاد المحطات الأهلية»، هى: «نشوف وشكم بخير»، ثم أردف المذيع قائلاً: «تصبحوا على خير»، وأصبح الناس، يستمعون إلى محطة ماركوني. إن صاحب هذه الكلمات الأخيرة المؤثرة، هو حبشي جرجس، كان يتزعم أصحاب المحطات الأهلية، وكانت محطته تسمع في أسيوط والإسكندرية، فضلا عن القاهرة، بينما كانت المحطات الأخرى، تتعثر أصواتها عند حدود القاهرة، ثم ترفض أن تتجاوز هذه الحدود.. كان شهيراً في القاهرة، والإسكندرية، وأسيوط، وكان الناس يتناقلون اسمه، ويقولون: «حبشي جرجس أذاع أغنية معينة أو إعلانا معينا»، أما الآن بعد ربع قرن، تطورت خلاله الإذاعة تطورا هائلا، فمن الذي يذكر حبشي جرجس وإعلاناته وأغانيه؟ إحدى عشر محطة إذاعة صمتت منذ العشرينيات، ولكن حبشي جرجس ظل يعيش في أصدائها التي أخمدها قرار المواصلات، والأصداء هي كل ما تبقى بعد ذلك للسيد حبشي، الذي انهمك في أجهزة الراديو وماكينات السينما، في محله المتواضع الذي افتتحه بعد إغلاق محطة راديو فاروق وأخواتها، وهو في الثانية والستين من عمره.

مشاركة :