لا يمكن لأحد أن يغفل ظهور التطرف في باكستان، خاصة منذ الحرب في الجارة أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أنه رغم أن الصحافة الدولية تعمل على تصوير طبيعة التطرف في باكستان على أنه ديني، فإن المسألة ليست هكذا دائما.العرب [نُشر في 2017/08/24، العدد: 10732، ص(6)]بين الهوية والتطرف إسلام أباد – في مقال بعنوان “مأساة تقسيم الهند.. 70 عاما بعدها”، نشرته وكالة بلومبرغ الإخبارية الأميركية في السادس عشر من الشهر الجاري، ذهب نيسيد هاجاري إلى أنه ما كان ينبغي أصلا تقسيم الهند، معتبرا أن ذلك كان سببا للشحن الطائفي بين جارتين، إحداهما ذات أغلبية هندوسية (الهند)، والأخرى ذات أغلبية مسلمة (باكستان). وفي تقرير خاص حمل عنوان “سبعون عاما من العداوة الهندية الباكستانية”، حمّلت مجلة إيكونوميست البريطانية باكستان، التي أحيت في الرابع عشر من شهر أغسطس ذكرى استقلالها السبعين عن الهند، مسؤولية “العداوة” بين الجارتين الآسيويتين النوويتين. ولا يجد محللون كثيرون حرجا في وصف باكستان المرشحة لأن تصبح ثالث قوة نووية في العالم بـ”الدولة الفاشلة”، وهي فكرة يمكن للباحثين أن يجدوا عبر شبكة الإنترنت مقالات ومقاطع فيديو عديدة تروج لها. يدعو ما سبق إلى التساؤل: هل كان ظهور باكستان على خارطة العالم أمرا خاطئا؟، ويحيل أيضا إلى سؤال آخر وهو: لماذا تثار مثل هذه التساؤلات الآن، وقد مرت على استقلال باكستان سبعة عقود؟ وما الذي صار خاطئا بالنسبة لباكستان حتى يمكن تفاديه في ظل ظاهرة التفكك التي تشهدها بعض الدول في عصر لم يعد الناس يتحدثون فيه عن الاندماج؟ بل كيف يمكن الحيلولة دون تفكك التكتلات وعدم انهيار الدول المستقلة والدخول في دوامة متسعة من الحروب غير المحسومة؟ يرجع الخبراء ظهور فكرة باكستان كدولة إلى الشاعر الفيلسوف محمد إقبال (1873 – 1938). ففي كلمة ألقاها عام 1930، قدم إقبال مقترحاته في هذا الشأن، وأسهب في أفكاره التي أرست بعد ذلك دعائم طلب إقامة باكستان. ويبدو أن مصدر قلقه الرئيسي كان وضع المسلمين داخل الهند والتأثير المحتمل للاتجاهات الدينية الهندوسية على الحكم السياسي وانعكاسات ذلك على المسلمين.تقسيم الهند اقترح إقبال إقامة دولة في المناطق ذات الغالبية المسلمة شمال غربي الهند. وكان يؤمن بأن أفكار الإسلام العالمية ستوفر المبادئ التوجيهية للحكم. ومع تعارض هذا التوجه مع السياسة العالمية آنذاك، والتي هيمنت عليها الأفكار الأوروبية، اندرج ذلك تحت توصيف “القومية الإسلامية”، رغم أن إقبال كان بالكاد يؤيد فكرة القومية التي كانت تتشكل بها أوروبا حينها. ووصف مؤرخون طلب إقامة باكستان بأنه “انفصالية إسلامية”. وفي الواقع ما كان يريده إقبال هو حماية القيم الإنسانية العالمية والكرامة من نظام اجتماعي قومي تحركه الطائفة. كان تصوره ينصب فقط على نموذج للهند يحترم كرامة الجميع، وكان يعتقد أن إقامة دولة مسلمة مستقلة يمكن أن تصبح نموذجا للسلام والازدهار. وبعدما عرض إقبال رؤيته وأقنع الكثيرين بها، عاد السياسي والمحامي محمد علي جناح (1876-1948)، إلى الهند، ليتزعم عصبة مسلمي عموم الهند وصاغ إطار عمل نظري لباكستان، وهو ما صار يعرف آنذاك بنظرية الدولتين. وقد نجح في تحقيق هدفه في غضون عقدين. كان جناح مقتنعا بإمكانات تعاليم الإسلام العالمية. وتعهد بأن يتم اتباع المبادئ الإنسانية نفسها وممارستها في دولة باكستان الجديدة. لكن، انتهى المطاف بباكستان دولة تروج لما وصفه قادتها بـ”المصالح القومية”. ومن هنا نعود إلى سؤالنا: ما الذي صار خاطئا بالنسبة لباكستان؟ كان جناح قد واجه صعوبة هائلة في إدارة شؤون الحياة اليومية للدولة، خلال الفترة القصيرة التي قضاها بعد ولادة باكستان في 14 أغسطس 1947. ولم ترث باكستان سكرتارية أو أمانة دائمة للإدارة، وكان جناح يعتمد بشكل كبير على البيروقراطية المدنية التي تدرب عليها على يد البريطانيين. وكان البيروقراطيون هم أول من خان رؤية إقبال وجناح لباكستان. بدأ مالك غلام محمد، وكان موظفا حكوميا والحاكم العام الثالث لباكستان، يتآمر ضد المؤسسة السياسية، وبدعم من القاضي محمد منير، تم إقصاء رئيس الوزراء، ومن ثم تولدت أزمة سياسية في باكستان. كما تم تهميش السياسيين وموظفي الدولة الصادقين والملتزمين واستقال أعضاء بارزون من غير المسلمين، منهم غوغيندرا ناث ماندال، الهندوسي الذي عينه جناح وزيرا للقانون والقاضي أ. ر. كورنيليوس، وهو مسيحي كاثوليكي ورابع رئيس للمحكمة العليا. اليوم، يعود ذلك المشهد القديم إلى الأذهان بعد ما حدث مؤخرا، حيث عزلت المحكمة العليا الشهر الماضي مجددا رئيسا للوزراء (قضت بعدم أهلية نواز شريف للحكم إثر تحقيق في اتهامات فساد تتعلق بثروة أسرته)، وهو في الحكم، ومن ثم باتت إمكانات عدم الاستقرار السياسي تلوح في الأفق مجددا. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل المحكمة تعالج فعلا مسألة الفساد أم أنها تحاول إقصاء ساسة بعينهم من المشهد السياسي الباكستاني؟خبراء يتساءلون بعد سبعين عاما: هل كان ينبغي أن تظهر باكستان على الخارطة لا يمكن لأحد أن يغفل ظهور التطرف في باكستان، خاصة منذ الحرب في الجارة أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أنه رغم أن الصحافة الدولية تعمل على تصوير طبيعة التطرف في باكستان على أنه ديني، فإن المسألة ليست هكذا دائما، ففي كراتشي وبلوشستان، يكون المتطرفون مدفوعين في الغالب بالعنصرية والعرق، لكن في أجزاء أخرى يتم ذلك تحت اسم الدين. وتكثفت هذه الأنشطة منذ تنصيب الحكومات المدنية في التسعينات، والتي اتُهمت بالفساد المتفشي. ومع تدخل الولايات المتحدة عسكريا في أفغانستان عام 2001، تزايدت الأنشطة المسلحة في باكستان بشكل هائل. وباكستان، في واقع الأمر، في أزمة. والكثير من الباكستانيين يرون أن هناك أياد أجنبية وراء صعود التطرف في البلاد. ورغم أنه قد يكون هناك بعض الحقيقة في مثل هذه المزاعم، فإن إلقاء اللوم على الآخرين في مشاكل يمر بها بلد، لا يمكن أن يحل الأزمة. وفي الذكرى السبعين لاستقلال باكستان، يتعين على الباكستانيين التفكير بشكل جاد في الأمور التي صارت خاطئة في تاريخهم. ويجب أن يطرحوا أسئلة مهمة، منها: هل سيفضلون مسلمين مثل غلام محمد ومحمد منير؟ أم غير مسلمين معجبين بالإسلام مثل ماندال وكورنيليوس؟ وهل يستطيع الباكستانيون تصور رؤية إقبال وجناح؟ أم أن لديهم الشجاعة ليسألوا ما إذا كان إقبال وجناح مخطئين في تصور الأساس النظري لباكستان في المقام الأول؟ وبينما يتعين على الباكستانيين التركيز على تحديد أسباب ما آلت إليه أوضاعهم الداخلية وأسباب فشل دولتهم، يتعين على المجتمع الدولي أيضا النظر إلى هذه التجربة في التعامل مع ملفات مطروحة من قبل جماعات انفصالية في عدة دول، وخاصة في المنطقة العربية؛ حيث أن ظهور دويلات جديدة “فاشلة” في هذه الرقعة الجغرافية الساخنة لن يؤدي إلا إلى المزيد من الصراعات الحدودية والحروب على الطاقة والموارد وعدم الاستقرار الدولي وتطور مظاهر الإرهاب وجماعاته.
مشاركة :