... توقفت كثيرا أمام قبر جبران خليل جبران، أهمس له بما أكنه من مشاعر، وأعترف له بفضله، وأتحاور معه بما بقي في الذاكرة من أقواله، وأستعرض بعض أفكاره ورؤاه التي تحدث على أرض واقعنا الآن، فهو صاحب القول المعروف في مقاله المعنون: إلى المسلمين من شاعر مسيحي: «أنا مسيحي ولي فخر بذلك، ولكنني أهوى النبي العربي وأكبر اسمه وأحب مجد الاسلام وأخشى زواله، أنا شرقي ولي فخر بذلك ومهما أقصتني الأيام عن بلادي أظل شرقي الأخلاق سوري الأميال لبناني العواطف، أنا شرقي وللشرق مدينة قديمة العهد ذات هيبة سحرية ونكهة طيبة عطرية ومهما اعجب برقي الغربيين ومعارفهم يبقى الشرق موطنا لأحلامي ومسرحاً لأماني وآمالي، خذوها يا مسلمون كلمة من مسيحي أسكن (يسوع) في شطر من حشاشته و (محمداً) في الشطر الآخر: إن لم يقم فيكم من ينصر الاسلام على عدوه الداخلي، فلا ينقضي هذا الجيل إلا والشرق في قبضة ذوي الوجوه البائخة والعيون الزرقاء». ويقول في موضع آخر: «إن طييعة الإسلام لا تقبل المزايدة، فالإسلام حقيقة مجردة مطلقة، إنّ الإسلام ليس بدين فقط كما يظن مستشرقو الإنکلیز بل هو دين وشريعة مدنية تضم تحت جناحيها الهائلين جميع حاجات الإنسان في كل عصر». وقفت أسامره بما يكنه صدري من تقدير له واحترام لآرائه التي أتفق معها أحيانا، وأختلف حينا، وأتذكر أيام بدأت قراءة كتابه «النبي» في مكتبة قصر الثقافة بمدينة طنطا، كنت وقتها في سن يافعة، فوجدت صعوبة في تفهم أفكاره الفلسفية فيه، لكني عاودت الكرة بعد عدة أعوام تدفعني فيروز بصوتها الملائكي وهي تشدو منه مقاطعها المحفوظة، ووجدت في هذا الرجل وفكره وقتها مبتغاي، وكأنه يتحدث بلسان حالي رغم ما يفصلني عنه من أعوام وأميال وأجيال، وتختلف بيئتي عن بيئته وديانتي عن ديانته، وطموحاتي عن طموحاته، لكننا التقينا، التقينا في مفهوم جامع عام: «الإنسانية». وقد فتح لي جبران الباب على مصراعيه لأتتبع أدب المهجر، وأتعرف إلى رواده فأحببت إيليا أبي ماضي، ودخلت عوالم ميخائيل نعيمة، وغيرهما، لكنه كان في نظري الرائد الأعظم، والفيلسوف المحب الراقي، والمتعبد البعيد عن التعصب والطائفية، رغم ما اتهم به من إلحاد وكفر، فجبران يرى أن الإيمان أمر فردي وفطري والأديان لها منشأ واحد والمنشأ هو ذات الإله المقدس، وهو يقول: «تقول فكرتكم: الموسوية، البرهماتية، البوذية، المسيحية، والاسلام. أما فكرتي فتقول: الدين واحد مجرّد مطلق تعدّدت مظاهره وظلّ مجرّداً، الدين هو الواقع الذّاتي والعمل هو التّعبير عن هذا الواقع، إن جذور الأديان ترجع إلی طريق وحيد وینتهی هذا الطريق لإله واحد ولخالق واحد مهما تغيّرت الأسماء ومهما اختلفت الظواهر»، فجبران مؤمن بوحدة الأديان وبوحدة الوجود ويری أن الأديان بمثابة أصابع اليد التي تنتهي إلى أصل واحد. والدين في جوهره ليس عملاً شكليّا طقسياً وإنّما أعمال تعكس ما تخبّئه النفوس ويتبلور بالنّيات فيقول: «ليس الدين بما تظهره المعابد وتبيّنه الطقوس والتقاليد، بل بما يختبئ في النفوس ويتجوهر بالنّيات». ويرى أيضا أن التعصب الطائفي طريق يقود إلى الضعف والتخاذل وانحلال القوة وتفرق الكلمة ولا يفضي أبدا إلی تحرر في الفكر، أو استواء في القصد، أو قوة في الكيان، بل ذلك الذي يعطل ويعوق السير في طريق النهوض، لذلك ينبغي أن نحترم بعضنا بعضا، ويتقبل كل منا الآخر ويقدره. يقول جبران: «أنت أخي وأنا أحبّك، أحبّك ساجداً في جامعك، وراكعاً في هيكلك ومصلّياً في كنيستك، فأنت وأنا أبناء دين واحد». فالله خلق الإنسان حرّا، ومنحه العاطفة والعقل، وزيّنه بالمعرفة، فماذا لو استثمر ذلك فيما ينفعه، ويعود عليه وعلى مجتمعه بالخير العميم؟
مشاركة :