الكاتب الحقيقي يولد متمردا فإن أطاع سقط وضاعيعرف عن الكتاب تمردهم المطلق، وتوقهم الدائم إلى التحرر الذي لا يتوقف عند حد معين، إذ هو دائم، لكنه أيضا تمرد واع، ليس مجرد نار تحرق نفسها، بل طاقة كبرى يطوعها الكاتب من خلال وعيه الذي تشكله تجربته القرائية والحياتية والكتابية. “العرب” التقت حول هذه المسألة وقضايا أدبية أخرى الكاتب المغربي المتعدد أحمد المديني وكان لنا معه هذا الحوار. العرب سلام الشماع [نُشر في 2017/08/30، العدد: 10738، ص(15)]الوصي علينا في الأدب هو نظامه عمان - يشن الأديب المغربي أحمد المديني “غارات شعرية”، ولا يزعم أنه شاعر على الرغم من صدور ثلاثة دواوين له، فهو لا يكتب الشعر وحده، ولم يكرس له جُل إحساسه وهمه، ويرى حاله مع الشعر كمريض يقع ضحية الصرع. تزخر السيرة الإبداعية للمديني بتنوع نتاجه الأدبي، بين النقد والرواية والقصة القصيرة والترجمة وأدب الرحلة والشعر، وهذا النتاج منشور بالعربية ومترجم إلى الفرنسية والإسبانية والإنكليزية، غير ذلك المكتوب، أصلاً، بالفرنسية، فهو لا يكتب ما يراه أمامه، بل يحتاج إلى أن يذهب إلى الأشياء، التي يعدّها الناس مرمية ولا قيمة لها، يُعمل فكره أو خياله داخلها، فيستخرج منها ما يجده فيها ويعيد صقله للناس، لذلك فهو يصف نفسه بـ”الكاتب النبّاش”. آخر ما صدر للمديني في الرواية “ظل الغريب” عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، وطبع في بيروت 2017.أحمد المديني: رهاني على الأدب الساخر المتنبي وكامو يقول المديني، المولود في مدينة برشيد المغربية سنة 1949، لـ”العرب”: “وضعت في هذه الرواية زبدة تجربتي في معرفة الإنسان ومحيطي، وخبرتي في هذا الفن، الذي أصدرت عملي الأول فيه، في منتصف سبعينات القرن الماضي. إنها رواية أجمع فيها بين التجديد ومراس الروائي الكلاسيكي المتحكم في نظام سرده، وبنيان عمله بقدر عال من التماسك والانسجام ومركزية البؤرة وإشعاعية الرؤية بقوام قصة لها أول وتمضي في منعرجات، تشهد على مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب العربي وطموح أبنائه للتحرر وتحقيق الذات، إلى هذا تتشكل بنيةً ونسجاً وسرداً وتصويراً أيضاً في صيغة حُلمية مجازية توازي وتتداخل مع الصيغة الواقعية والتسجيلية البارزة فيها. وبذلك أطمح، كما فعلت في روايتي ‘ممر الصفصاف‘ (2015)، إلى صوغ تركيبيٍّ لرواية عربية تواصل تجديدها بلا انقطاع، في أفق وامتداد ما يعرفه هذا الجنس الأدبي العالمي”. في الوقت نفسه، لم تنقطع صلة المديني، الحاصل على دكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة السوربون الفرنسية 1990، بالقصة القصيرة، التي يكتبها باستمرار بموازاة الرواية، بعد آخر مجموعة له “طرز الغرزة” (2015) عند ناشره المركز الثقافي العربي، وهو يقول “أكتب قصصا تعزز إنتاجي في هذا الجنس، منفتحة على طرائق تعبيرية وحوارية من جنس آخر، لكن الحكاية باقية فيها، فلا قص من دون حكاية أو عنصر خبري، ومن دون لغة مناسبة وحبْك محكم، ومن يقول بغير هذا يحرث في الماء، ولن يحصد إلا الزبد الجفاء. ما أنا وصيٌّ على أحد، الوصيُّ علينا في الأدب هو نظامه ومقتضيات تعبيره وجدارة تجديده باقتدار، لا استهتار”. ويتابع ضيفنا “الدراسة الأدبية والنقد، لي بهما علاقة يومية، بحكم مهنتي وقراءاتي المحترفة، وما أنشره متفرقا من إضاءات على أعمال سردية عربية وغربية، آخرها كتاب ‘كتابة أخرى- سرد عربي مختلف’ (دار الأمان، الرباط، 2015)، ولي مشروع أيضا قيد الإعداد. أما الشعر الذي أصدرت فيه خلال مسيرتي الأدبية ثلاثة دواوين فإنني لا أنقطع عنه، وأزرعه مكنونا وكمائن في نثري، بتّ أتنازل عن تسميته شعرا جرّاء العاهات التي ألحقها به ويواصل عديمو الموهبة والدخلاء”. في مقابل ذلك، يعنى المديني كثيراً بالنص الرحلي، وصدرت له في هذا النوع كتابات لرحلات آخرها كتابه “خرائط تمشي في رأسي” وقبله “نصيبي من الشرق” وأجمله عند مؤلفها وبإجماع النقاد والقراء “نصيبي من باريس”. هل الكاتب متمرد أم متصالح مع التمرد؟ يأخذنا المديني إلى عمق الفلسفة عندما يسمع مثل هذا السؤال، إذ يقول “ربما احتجنا إلى أكثر من تعريف لمفهوم ‘التمرد‘ لأنه ليس كلمة طائشة، بل هو وضعٌ فلسفيٌّ وموقفٌ من الوجود، كينونيٌّ وإنسانيّ، في إطار تشخيص تاريخاني، وهذا ما تأمّله وبلوره ألبير كامو في كتابه المؤسس ‘الإنسان المتمرد‘ 1951. لن أغامر بأي تعريف، ولا أنا أملك هذا الزعم، فتجربتي الحياتية والمعرفية لا ترقى إلى مرتبة أسلافي، بعد أن وصلوا إلى درجة الحكمة باستخلاص زبدة الوجود بالمفهوم الفلسفي، عبر استعراض المراحل الكبرى لتاريخ البشرية، يحتاج كل كاتب إلى الإطلاع عليها، واستيعابها”.التجربة القصصية للمديني أكثر تشويقاً من تجربته الروائية ويتابع “إن الإنسان، أيّاً كان أصلُه ونزوعُه، مندفعٌ ورافض، والسلطة (القانون) والمجتمع، والتربية، هي ما يلجم فيه حسَّ تمردٍ شبه غريزي منه صرخةُ الوليد لمّا يخرج من الرحم. والكاتب الحق، الفرد الفذ، لا أحد يلجمه، يولد متمردا، وهكذا يبقى، فإن أطاع، فنى وضاع. وهذا لا يعني أنه شخصٌ أهوج، يرمي بالحجارة العابرين في الطرقات والكتب، بل المتمرد الحقيقيُّ، الأصيلُ، هو من يصل به مِراسُه إلى تطويع حسِّ التمرد، لا أقول تدجينه. أما دعوى الالتزام فهي صراخ، حالةُ حمىّ ثم تزول، موقف سياسي لا أدبي، أي زائل، مثل كم من الكتاب الملتزمين انتسبوا إلى تاريخ الأدب عُنوة وهم بعد عبثا يعاندون ويَلغون، أووف، كامو متمردٌ جوهريا، لذلك هو باق، وأنا لي جدّان المتنبي وكامو”. القصاصون نادرون يرى نقاد في المشرق العربي أن التجربة القصصية للمديني أكثر تشويقاً من تجربته الروائية، لكنه يرفض هذا الحكم، قبل أن يعرف من هؤلاء النقاد، يقول “لا أحسب ناقدا حصيفا يرسل حكما جازما كمحكمة التمييز، بل لا يحكم البتة. وقد اعتبرت دائما أن لكل مقام مقالا، وقالب القص القصير ليس هو معمار الرواية، القصة القصيرة أجدها مختبرا دقيقا وامتحانا عسيرا لمهارة وحذق أدوات محترف السرد، أقول إن القصاصين الجيدين، أندر من التبر، قوّامون على الروائيين”. طبعت السخرية المجموعة القصصية، قبل الأخيرة للمديني “طعم الكرز”، وهو يقيم هذه التجربة بالقول “قبل أن يقف كونديرا على خاصية السخرية دامغة في نصوص مميَّزة للسرد التخييلي الغربي، ويعتبرها من مقوماته ومصدرَ قوة وذكاء في فن الرواية، كان رابلي منذ القرن الـ15 في تدوينيه السرديين الباهرين ‘بانتاغرويل‘ و‘غارغانتوا‘ خاصة، قد أرسى احتفالية الضحك من تعابيرها الفكاهة والسخرية في قلب ما سيعد النشأة البدئية المرهصة للرواية الحديثة. نهجٌ أكّده ورسّخه ثربانتس في ‘دون كيخوطي دي لامانشا‘، وتحضرني في تراثنا أمثلة مثيرة من أدب الجاحظ في كتابه ‘البخلاء’، وإليه ما لا يخلو من تفكّه ورسم ساخر في مقامات الهمذاني”. ويستدرك قائلا “بيد أن السرد التخييليّ الحديث، وقد تطور معه فن الحكي والعرض ورسم الشخصيات وصوغ أفعالها في مجتمعات ارتقى ذكاء الإنسان فيها ونمط عيشه، وتحدثت ثقافاتها منتقلة خصوصا من الرعوية إلى الحضرية، ومن ثم من الشفوية إلى المكتوب، كان لا بد أن يتخلى عن أسلوب الفكاهة أو التسرية القديم، ذي الطابع الجسدي الاحتفالي تعبيراً، والخلُقي رسالةً، ليقدم منتوجا ملائما في مجتمع من نواظمه الصراع والاختلاف والتعدد والمنافسة وحرية الفرد، ولقد غرق هذا الفرد في خضم معارك وتناقضات واستلابات، نجمت عنها مفارقات تمس العالم الخارجي (الموضوع) والحميمي (الذات) وبتفاعل هذين العالمين وتشابكهما قدحت زناد الأدب، فكانت القصة القصيرة وجاءت الجنسَ الأدبيَّ الأشدَّ ملاءمة لرصد هذا التحول في قلبها المفارقة”. ويشير المديني إلى أن وقت المفارقة، وإيقاع اللعب، ونكهة السخرية، هي ما راهن عليه في قصصه القصيرة كلها.
مشاركة :