جدل الثابت والمتغير في الشريعة

  • 9/2/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

بدلاً من أن يبشر الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي شعبه بالمساواة في توزيع ثروات البلاد، أو بتحويل البلاد قلعة صناعية أو واحة للديموقراطية، دعاه إلى قضايا تمس ثوابت الإسلام وليست من اختصاص الدولة أو الحاكم، بل من مهمات العلماء والفقهاء، وكأننا نعيد مشهد بورقيبة الذي أهمل كل شيء في تونس وأراد أن يمنع شعبه من صيام رمضان بحجة أنه يضعف القوة الاقتصادية، والصيام منه براء، وأراد فتوى بذلك من المفتي الطاهر عاشور الذي خرج على الناس ليذكرهم بالآية: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ». أثارت دعوة السبسي إلى التسوية بين المرأة والرجل في الميراث، وبحل زواج المسلمة من غير المسلم، ودعم مفتي تونس له، عاصفة هوجاء مؤيدة من العلمانيين ومستنكرة من معظم المسلمين وكل المؤسسات الإسلامية الرصينة مثل الأزهر ودار الإفتاء المصرية. السبسي وبورقيبة يريدان تحويل ثابت من الإسلام إلى متغير، وكما ذهبت دعوة بورقيبة أدراج الرياح، ستذهب أيضاً هذه الفرقعة التي يلجأ إليها البعض تهرباً من مستحقات العدل السياسي والاجتماعي والتقدم والتنمية. فما أيسرَ أن تدوس على ثوابت الإسلام في بلاد العرب. الإسلام له ثوابت وفيه متغيرات، وينبغي على كل مسلم أن يثبت مع ثوابت الإسلام ويكون في صلابة الحديد، ويتغير مع متغيراته ويكون في مرونة الحرير، وثوابت الإسلام قليلة، ومتغيراته كثيرة وهي الأغلب، وهذا سر خلود الشريعة وصلاحيتها للتجاوب مع مقتضيات كل عصر ومصر. ومن ثوابت الإسلام، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره، ومنها الصلاة والزكاة والشهادتان والصيام وحج بيت الله الحرام. ومنها أن الزواج هو المؤسسة الوحيدة المشروعة للعلاقة بين الرجل والمرأة، وحرمة الربا والزنى والخمر والميسر واللواط والسحاق، وحرمة الظلم والبغي وعقوق الوالدين. ومنها اختصاص الله وحده بتوزيع المواريث مع الاجتهاد في ما لا نص فيه. ومنها وجوب رعاية الأيتام والفقراء والمساكين وتحريم أكل أموال اليتامى ظلماً. ومنها حرمة الرشوة والغش والتدليس أو تعيين غير الكفاءات، وتحريم الظلم ووجوب العدل. ومن ثوابت الإسلام إقرار حرية العقيدة والعبادة لأهل الأديان الأخرى. أما المسائل السياسية والاقتصادية والإدارية وطرق تعمير الكون وإدارة المجتمعات فجلها من المتغيرات، فليس هناك ثوابت في الشأن السياسي سوى «العدل والشورى واختيار الأكفأ»، وكل ما سوى ذلك وطريقة تطبيق حتى هذه الثوابت متروكة لأهل الاختصاص. أما الشأن الاقتصادي فكله من المتغيرات وليس فيه ثوابت سوى تحريم الربا والرشوة والتدليس والغش وأكل أموال الناس بالباطل. وأكثر الخلاف بين العلمانيين والإسلاميين يكمن في أمر الثوابت والمتغيرات. فأكثر العلمانيين يريدون تحويل معظم ثوابت الإسلام إلى متغيرات، فلا مشكلة في الخمر أو الزنى أو خلع الحجاب أو ترك سنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، الصحيحة. وأكثر الإسلاميين الحركيين يريدون تحويل بعض متغيرات الإسلام إلى ثوابت كتحويل النقاب إلى فريضة أو فرض ما لم يفرضه الله على الناس، أو تحويل اجتهادات الفقهاء إلى ثوابت الدين. والخلاصة، أن بعض العلمانيين يريد تحويل الحرام القطعي إلى حلال. وبعض الإسلاميين الحركيين يريدون تحويل الحلال القطعي إلى حرام، وكلاهما نهي الله عنه: «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ». وبعض العلمانيين يريد إلغاء النص بالكلية حتى لو كان قطعي الثبوت والدلالة. وبعض الإسلاميين يريدون إلغاء دور العقل، حتى لو كان في فهم النص. قال لي علماني عراقي: «أنا أرى أن الحجاب إرهاب»، قلتُ له: «وطبعاً الميكروجيب فضيلة». هو يكفر بأول مبادئ العلمانية والليبرالية الحقيقية وهي الحرية الشخصية، ويخلط بين حق المرأة في لبس ما تراه، بخاصة إذا كان موافقاً لمراد الله، وبين حرمة الإكراه. هم يؤيدون أحياناً الديكتاتوريات التي تلزم الشعوب بخلع الحجاب ولا ينطقون أبداً حينما تفرض مؤسسات على العاملين فيها خلع الحجاب في بلاد العرب. لم يفهم صاحبناً أن الإكراه كله إثم، وأن الإسلام حرَّم الإكراه في العقيدة، فهل يكره الآخرين في ما سوى ذلك؟ وهل يظن أن هذه الملايين التي تلبس الحجاب أُكرهت على ذلك؟ يقولون إن الدين يتدخل في السياسة والحقيقة أن الساسة هم الذين يفسدون الدين ويتدخلون فيه بغير الحق وبغير علم.

مشاركة :