استقلال القضاء ضمانة لشرعية الانتخابات في أفريقياأعطى الكينيون درسا استثنائيا لنظرائهم الأفارقة في عدالة العملية الديمقراطية، إثر إلغاء المحكمة العليا نتائج انتخابات الرئاسة التي جرت الشهر الماضي وفاز فيها الرئيس أهورو كينياتا بولاية ثانية على مرشح المعارضة رايلا أودينجا، حيث أمرت المحكمة في أول سبتمبر الجاري بإجراء انتخابات جديدة خلال شهرين بعدما توصل غالبية أعضائها (موافقة أربعة + معارضة اثنين) إلى وقوع تجاوزات ومخالفات في نتائج العملية الانتخابية بما أضر بنزاهتها.العرب د. خالد حنفي علي [نُشر في 2017/09/06، العدد: 10743، ص(7)]عنف بعض القوى العرقية يعرقل أي محاولة للنهوض صارت كينيا أول دولة أفريقية تقبل طعنا للمعارضة في انتخابات الرئاسة، وتلغي نتائجها على خلاف ما درجت عليه العادة في المشهد الانتخابي في القارة السمراء، بل إن هذا البلد الأفريقي انضم بهذا القرار إلى دول أخرى قليلة حول العالم أقدمت على إلغاء نتائج التصويت الرئاسي، مثل، النمسا 2016 والمالديف 2013 وأوكرانيا 2004. ولا تخص العبر الكينية هذا البلد وحده، بل تمتد آثارها إلى دول أفريقية أخرى، في ظل ما تعانيه من ضعف ضمانات الشفافية والنزاهة وهيمنة السلطة التنفيذية على إجراءات العملية الانتخابية، وهو ما مكّن بعض الرؤساء الأفارقة من البقاء لمدد طويلة، كما حال أوغندا المجاورة حدوديا لكينيا في شرق أفريقيا، حيث ما يزال الرئيس يوري موسيفيني متشبثا بالسلطة منذ 30 عاما، بعد فوزه في العام الماضي بولاية خامسة، دون أن تسفر طعون المعارضة السياسية عن نتيجة تذكر، مثلها في ذلك مثل دول أخرى مثل زيمبابوي وزامبيا وغيرهما. ما يلفت النظر في قرار بطلان انتخابات الرئاسة الكينية أن استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية يمثل ضمانة أساسية لعدالة وشرعية الانتخابات، وعبر قرار المحكمة الكينية العليا في مضمونه عن قدرة القضاء على إصدار أحكام لتعزيز حكم القانون، وإن تعارضت مع مصالح السلطة الراهنة، وبدا ذلك واضحا، عندما قال ديفيد ماراجا رئيس تلك المحكمة – في افتتاح جلسة النظر في طعن المعارضة – إن عظمة أي أمة تكمن في إخلاصها للدستور والالتزام بسيادة القانون. شكّل انصياع الرئيس أهورو كينياتا لإعادة الانتخابات في بلاده درسا آخر في الحرص على شرعية التناوب الديمقراطي سواء أمام مواطنيه أو المجتمع الدولي، ويصعب عليه تجاهل حكم قضائي يمثل طعنا في مشروعية بقائه على رأس تحالفه (جوبيلي) في السلطة.لا تمثل عملية إعادة الانتخابات في كينيا مجرد كلفة مالية جديدة تثقل كاهل الاقتصاد الكيني، لكنها قد تؤدي إلى ركود يثير كذلك بطلان فوز كينياتا معضلة أفريقية مزمنة تتعلق بمدى قدرة اللجان المشرفة على تأمين عملية الاقتراع، ونتائجها من الاختراق، بعيدا عن سطوة الأجهزة الأمنية للسلطة التنفيذية، نظرا لأن أحد جوانب المخالفات المطروحة من قبل المعارضة تتعلق باختراق الأنظمة الإلكترونية للجنة الانتخابات التي أعلنت فوز كينياتا بـ54.3 بالمئة من الأصوات، مقابل 44.7 بالمئة لمنافسة أودينجا، أي بفارق أصوات بينهما بلغ 1.4 مليون صوت. وطرح النموذج الكيني تساؤلات حول مصداقية تقارير بعثات المراقبة الدولية للانتخابات التي عادة ما تقبلها بعض الدول الأفريقية لتعزيز صورتها الديمقراطية أمام القوى الغربية والمؤسسات الدولية المانحة، كأحد شروط تدفق المساعدات، فتلك البعثات كانت امتدحت سير التصويت وفرز النتائج في مراكز الاقتراع الكينية، ومنها بعثات الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي التي خرجت بتقارير تشير إلى أن الانتخابات لم يشوبها أي تزوير. ينذر ذلك كله بأن إعادة الانتخابات الرئاسية في كينيا قد لا تخلو من سيناريو عنف عرقي مشابه لما جرى في العام 2007، عندما قتل أكثر من 1200 شخص، سواء أكان الفائز من السلطة أم المعارضة. فمن ناحية، تعدّ الانتخابات التي سيتم إعادتها الفرصة الأخيرة لأدوينجا الذي تجاوز السبعين عاما. من ناحية أخرى، فإن أهور -نجل زعيم الاستقلال جومو كينياتا- يتشبث بالسلطة حيث إن بقائه يعني استمرار هيمنة قبيلة الكيكويو على مفاصل السلطة، والأمن، والثروة، في وقت تعاني فيه قبائل أخرى مثل، لوو التي ينتمي لها أودينجا من التهميش السياسي والتنموي. فضلا عن تحالفات الفساد المنتشرة في أروقة السلطة، والتي قد تقاوم أي تغيير سياسي، ولعل الولايات المتحدة كانت قد أوقفت في مايو الماضي مساعدات مخصصة لقطاع الصحة الكيني بسبب شكوك حول تفشي الفساد. ولا تمثل عملية إعادة الانتخابات في كينيا مجرد كلفة مالية جديدة تثقل كاهل الاقتصاد الكيني، لكنها قد تؤدي إلى ركود. والمعضلة الأكبر أن هذا البلد الذي ينظر له كأحد بلدان شرق أفريقيا الأكثر استقرارا على الصعيدين السياسي والاقتصادي يشكل مجالا للتنافس الغربي- الصيني، بما يعني أن العامل الخارجي يترقب بدوره انتخابات الإعادة، والتي قد ترجّح نفوذ طرف دولي على آخر. كينيا تعد مجالا للتنافس الغربي الصيني بما يعني أن العامل الخارجي يترقب بدوره نتائج انتخابات الإعادة ففيما تعد نيروبي أحد حلفاء واشنطن في مكافحة الإرهاب، خاصة في مواجهة حركة شباب المجاهدين في جارتها الصومال، فإن الصين تمثل لاعبا أساسيا في مشروعات البنية التحتية التي اعتمد كينياتا – خلال ولايته الرئاسية الأولى – على تمويلها من الديون الخارجية والتي أمست هي الأخرى عبئا على اقتصاد بلاده بعدما بلغت 54 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويتعزز هذا التنافس في ظل ميل كينياتا نسبيا خلال فترته الرئاسية الأولى إلى نفوذ بكين في ضوء عدم فرضها لمشروطيات سياسية وحقوقية مقارنة بواشنطن، خاصة أنه ونائبه وليم روتو في ائتلاف السلطة كانا قد تعرضا لضغوطات غربية إثر اتهامهما بجرائم قتل جماعية في كينيا بين عامي 2007 و2008 أمام المحكمة الجنائية الدولية، لكن التحقيق تم وقفه في العام 2015 لعدم تعاون السلطات في هذا البلد. مهما كان الرابح في انتخابات الإعادة في كينيا، فقد قدم هذا البلد درسا قد تظهر قريبا تداعياته في عدم استسلام المعارضات لمحاولات السلطة في بعض الدول الأفريقية لتفريغ العملية الديمقراطية من محتواها، حتى أن زعيم المعارضة الرئيسي في موريتانيا الحسن ولد محمد دعا إلى الاستفادة من التجربة الكينية في احترام الدستور.
مشاركة :