لعل التجربة المغربية تبقى الأكثر إضاءة داخل العالم العربي، على الأقل من حيث الاهتمام بالتصالح مع تاريخه عبر الاحتفاء بشهادات صناع وضحايا فترة ما يُعرف بسنوات الرصاص.العرب حسن الوزاني [نُشر في 2017/09/16، العدد: 10753، ص(17)] اختار خوان مارتن جيفارا، في كتابه الأخير”أخي تشي”، الصادرة طبعته العربية قبل أسابيع، عن المركز الثقافي العربي، أن يُعيد رسم سيرة تشي جيفارا بطريقته المختلفة، عبر زاوية نظر الأخ الأصغر الذي سينتظر ستة وأربعين سنة قبل أن يتمكن من زيارة المكان الذي قتل فيه، حيث سيسمع ضحكته وصوته ولهجته. لم يكن مارتن جيفارا، في كتابه معنيا بشكل كبير بتكريس صورة تشي كمناضل كوني، بقدر ما كان منشغلا بإعادة تمثله “كإنسان من لحم، يتوجب إنزاله من على قاعدة تمثاله المنصوب”، ذلك لأن جيفارا لم يكن ليتحمل، حسب خوان مارتن، ظاهرة تحويله إلى صنم يصلي الناس أمامه كمعبود. خوان مارتن لم يتردد أيضا في التعبير عن تضايقه من استغلال مسار أخيه تجاريا، من خلال أعمال السياحة المربحة التي تستثمر صورته وطريقه موته. أما قوة كتاب “أخي تشي” فتكمن في قدرته على العودة إلى سيرة رجل كان موضوعا لمئات الكتب والمقالات والأفلام والأشرطة الوثائقية، بمختلف لغاتها، وذلك مع جعل المتلقي يشعر كما لو أنه يقرأ عن الرجل لأول مرة. ويبدو أن صدور كتاب “أخي تشي” يفتح من جديد سؤالَ علاقة الكتابة الأدبية، وخصوصا المتجلية منها في أدب السيرة، بالتاريخ. وهي علاقة تبدو مشرعة على كثير من الترابط والتكامل، اعتبارا لما يمكن أن تمنحه السيرةُ للتاريخ اعتبارا لأهمية الشهادة في التقاط ما لا يمكن أن يقف عنده المؤرخ في خضم قراءته وتدوينه للأحداث والوقائع الكبرى. إنها نفس العلاقة أيضا التي قد تجعل من اعتماد الشهادة الواحدة أمرا محفوفا بغير قليل من تزييف التاريخ. وأكثر من ذلك، يطرح مؤلف مختلف من عيار “أخي تشي” سؤالَ محدودية الكتابات عن الفاعلين الذين صنعوا جزءا من تاريخ العالم العربي. فمنهم من رحلوا دون أن يدوّنوا شهاداتهم حول مساراتهم، ومنهم من يعيشون الآن شيخوختهم مع احتفاظهم بالصمت أو بالاكتفاء بشهادات شفوية قد تندثر مع رحيل أصحابها، ومنهم من تناسى الآخرون الكتابةَ عنهم. والنتيجة أن جانبا مهمّا من تاريخ هذا العالم سيظل مجهولا أو غير مكتمل من حيث تدوينه وتَمثله. فالكتابة التاريخية الأكاديمية وحدها قد لا تكفي في غياب شهادات صنّاع الحدث. ولعل التجربة المغربية تبقى الأكثر إضاءة داخل العالم العربي، على الأقل من حيث الاهتمام بالتصالح مع تاريخه عبر الاحتفاء بشهادات صناع وضحايا فترة ما يُعرف بسنوات الرصاص. ويذكر الجميع كيف استطاع المغاربة، قبل سنوات، أن يستحضروا جزءا من تاريخهم، عبر شهادات اختير لها أن تُبث مباشرة عبر قناتهم الرسمية. أما ملفات العدالة الانتقالية فتم تحويلها، قبل أسابيع فقط، بعد معالجتها، إلى مؤسسة “أرشيف المغرب”. ولعل تلك هي الطريقة الأفضل لحفظ الذاكرة الجماعية ولطيّ صفحة مظلمة. كاتب مغربيحسن الوزاني
مشاركة :